انطلاقَا من جملة، "موت الشاعر حياة" التي رافقت منشور اعلان وفاة الشاعر العراقي (عريان السيد خلف)، التي ملأت صفحات المواقع التواصل الاجتماعي قبل فترة، والذي سبقه خبر وفاة الشاعر الفكاهي (رحيم مطشر) انزرعت في بالي ألف وألف علامة استفهام لأسئلة تدور في عقلي الصغير!.
فحقيقة الحياة التي يعيشها الانسان المبدع بعد وفاته هي معادلة غريبة ولا تخضع لأي منطق واقعي، ولكن مجازيا يمكننا تخيل الأمر من خلال الخلود الذي يناله الفرد المبدع عن طريق كتاباته إذا كان كاتبا، أو لوحاته إذا كان رساما، أو علمه إن كان عالما...الخ، ولكن في هذه الحالة سيتمنى جميع المبدعين أن يموتوا بأسرع وقت ممكن كي ينالوا الشهرة والخلود والتمجيد!.
الأمر الذي يثير التساؤل، هو كيف من الممكن أن تكون سيكولوجية الجماهير التي تحاول اكرام المرء بعد فناءه من الدنيا؟، لماذا لا يؤخذ الانسان المبدع مساحته من القدرة والتمكين العام والدعم الكافي لتقديم المزيد إلى تاريخ البشرية وهو على قيد الحياة.
لماذا يا ترى يكرم المرء بعد وفاته؟
عندما نعود قليلا إلى تاريخ الفنانين والمبدعين على مر التاريخ، نجد بأن أسماء عملاقة لم تأخذ حقها الكافي وهم على قيد الحياة، وأنا اطرح على نفسي هذا السؤال ولد من رحمه سؤال اخر، وهو ماذا يا ترى كان سيقدم الفنان أو العالم من ابداع أو ابتكار لو حصل على الدعم المادي والمعنوي والاهتمام والتحفيز في مسيرته الابداعية؟!، بالتأكيد كان سيتضاعف ابداعه وامكانياته... فالشخص العادي من المستحيل أن يقدم هذا الابداع تحت ظروف مادية ومعنوية صعبة، فكيف بهؤلاء الذين رغم قسوة الظروف إلا انهم اخرجوا عمل ليس له نظير.
إذن من هذا الباب نستنتج بأن هذه الشريحة هم أناس غير عاديين، وأنهم قدموا شيء لم يقدمه أي شخص على وجه التاريخ ولكن مع بالغ الأسف تم اكتشاف ذلك وتسليط الضوء عليه بعد أن تم فقدهم!.
وفي العراق على وجه الخصوص تعيش الشرائح الموهوبة تهميش كبير يؤدي أحيانا إلى دفن مواهبهم بسبب الظروف الصعبة وحالات الفقر التي يمر بها أبناء الشعب العراقي، وإهمال المسؤولين لهذا الأمر، وعدم الإلتفات لهذا الصنف المهم في المجتمع العراقي يعتبر السبب الأساسي لذلك.
فالشعوب المتقدمة لا تنتظر أن تأتيها الموهبة كي تتبناها، بل هي التي تسعى في كشفها، وهذا ما يتم في المراحل العمرية الصغيرة، أي في المدرسة..
إذ تسعى الجهات التعليمية باستخدام أسلوب خاص مع الطلبة لكشف مواهبهم والعمل عليهم، لأنهم مؤمنون بأن كل انسان يخلق ومعه موهبة وشيء يميزه عن الباقين من بني جنسه، وانه يبدع في مجال أكثر من آخر.
فتتم عملية صقل الموهبة من خلال مدربين خاصين خلال السنوات التي يقضيها الطالب في المدرسة يضاف إليه التشجيع المستمر من المعلمين والأهل، وحتى الدولة، لأنهم يعرفون جيدا بأن نجاح هذا الفرد وتطوره وابداعه سيعكس ويضيف إلى تطور البلد نفعا وخيرا.
ومن المتفق أن الابداع والابتكار لا يقتصر على الجانب الفني أو الأدبي فقط، بل يشمل جميع جوانب الحياة، فمن الممكن أن يبدع كل شخص في مجاله، فترى أن هنالك طبيب مبدع يفوق باقي الأطباء في عمله، ومهندس يقدم تصاميم غريبة ورائعة لا تقارن بما يقدمه باقي المهندسين، وهكذا الحال مع المعلم، والرسام، والميكانيكي، والحلاق...الخ.
ومن المعروف أن الشعب العراقي يمتاز بالذكاء والتميز والعبقرية، وقد شاهدنا في فترات معينة هجرة العقول العراقية إلى خارج البلد، لأن الكثير من الدول فتحت ذراعيها لاستقبالهم، ليس عشقا بهم طبعا بل من أجل الاستفادة من طاقاتهم، لهذا السبب ترى الدول الأخرى تستقطب المبدعين العراقيين وتتبانهم وتقدم لهم كل ما يساهم في تطوير امكانياتهم، للاستفادة من خدماتهم العلمية والابداعية لاحقا.
وهذا ما حصل مع أغلب الأطباء الموهوبين والعباقرة الذين تركوا العراق لأنهم لم يجدوا من يحتوي قدراتهم ويساعدهم على تطوير مواهبهم وتبني مشاريعهم وتشجيعهم لتقديم الأفضل.
وهذا تقصير فظيع من المسؤولين بتواجد هكذا طاقات وعقول بشرية في البلد، وعدم الاستفادة منهم وسنح الفرصة لباقي الدول أن تستفاد منهم ونحن بأمس الحاجة لهم.
ويبقى من الضروري جدا احتضان المواهب الشبابية من أجل مساعدتهم على الابتكار، وتنمية مواهبهم حتى تصبح إبداعا، لأن هذه الشريحة تعتبر من أهم الشرائح في المجتمع والواجهة الحضارية للبلد، وممكن صقلها بطرق عديدة كالمشاركة في المحافل والمسابقات المحلية لتشجيعهم وحثهم على التطور والتميز ومن ثم التوجه إلى النشاطات العالمية للاحتكاك والتعرف على المبدعين والاستفادة منهم، وتبادل المعارف والمعلومات القيمة والسعي دوما للتقدم إلى الأمام.
كما أن دور الأهل لا يقل عن دور الحكومة أبدا، وليس حجة أن نترك أطفالنا ونهمل مواهبهم وامكانياتهم العقلية والفنية بحجة اهمال الحكومة لهم، وبإمكان كل عائلة أن تكتشف موهبة أطفالها وتحاول جاهدة في تطويرها من خلال التشجيع اللفظي أو تسجيله في الدورات التعليمية التي تلائم موهبته، ومتابعتها، إذ ان "توماس اديسون (مخترع المصباح) والذي غيرت اختراعاته البالغ عددها 1093 حياتنا كلية، اعتبره المدرسون غير قابل للتعلم، ولم يتعلم سوى ثلاثة أشهر فقط بعد أن وجده ناظر المدرسة طفلا بليدا متخلفا عقليا، وقامت والدته بمهمة تنشئته وتربيته، وطورت ملكته الإبداعية بالتحفيز والتشجيع لينور باختراعه مجرى حياة البشرية.
اضافةتعليق
التعليقات