إن الإنسان أكبر من هذا الكيان الأرضي، أكبر من هذه الكتلة الصغيرة التي هي من العناصر الترابية المركبة تركيباً بشرياً، إنه ذلك اللقاء الفريد بين رغبات الأرض ونفحات السماء، وهو بروحه المتنقلة بين العوالم أكثر مما هو بجسده المزمن على الأرض، فهو ليس أكثر من زورق مرحلي يجتاز بحيرة الدنيا ولذلك لا يقيّم بوزنه، وإلا لكان (الثور) أثمن منه، ولا بلونه، وإلا لكانت (اللوحة الفنية) أثمن منه ولا بشجاعته وإلا لكان (الأسد) أثمن منه، ولا بقوته، وإلا لكان (الفرس) أثمن منه ولا بسائر مزاياه الجسدية، وإلا لما وجدنا أصحاب المزايا الجسدية في (الشوارع) وفاقدي المزايا الجسدية على (مقاعد الرئاسات).
لأن النسخية ملحوظة في المالكية والمملوكية، فكما أن الحجر لا يعتبر أعمى ولا بصيراً، لأنه من باب (العدم والملكة) كذلك: الحجر لا يعتبر مالكاً لمن جلس عليه، والماء لا يعتبر مالكاً للسمكة التي رباها، هكذا كلما ليس من سنخ الإنسان ليس ملكاً حقيقياً للإنسان.
وإذا كانت شرائع السماء اعتبرت الإنسان مالكاً لأشياء ليست من سنخ الإنسان، فإنما الملكية فيها اعتبارية، لمجرد تقنين سيولة الحياة، وتدويل الأشياء بين الأفراد بشكل يضمن تلبية حاجات كل فرد بلا صراع.
والاعتبارات التي توضع لتصريف الحياة بين الأحياء: تشبه الرموز التي يتفق عليها الأفراد أو الجماعات وسيلة لتبادل المعلومات، وتشبه اللغات التي تختلف من شعب إلى شعب، وتشبه الأوراق النقدية التي تقرر وتلقى بقرارات الحاكمين في الأسواق فهي ليست أشياء واقعة قائمة بذواتها، وإنما هي مقررات مرتبطة بإرادة من له صلاحية إصدار مثل هذه المقررات (وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسانِ إِلاَّ ما سَعى. وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى، ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الأَوْفى).
وأما الأموال: الأرض وما تحمل وتثمر، فإنما هي أشياء مستقلة عن الإنسان وقائمة بإزاء الإنسان، فلا يملكها، بل يمر بها مروراً، وإذا كانت الاعتبارات الدينية أو القانونية تعطيه صفة (المالك) لبعض الأرض وما تحمل أو تثمر، فإنما تستغل طاقاته لإدارتها.
لأنها في الحقيقة لا منحه إلا نوعاً محدوداً من حرية التصرف فيما تسميه (ممتلكاته)، مقابل استنزاف الكثير من اهتمامه وجهوده في إدارتها، فتأخذ منه أكثر مما تعطيه.
فسعي الإنسان هو الشيء الوحيد الذي يملكه في الحياة، لأنه يصدر منه ويعود إليه، فهو المصدر والمصب لسعيه، فهو له حقيقة: (وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسانِ إِلاَّ ما سَعى). فسعي الإنسان سوءاً أكان لبناء نفسية أو لبناء غيره فهو لنفسه وخاص بها. فليس للإنسان غير سعيه، وأما سعيه فهو له.
أـ لأن مجرد السعي حركة، والحركة تنمي المتحرك، حتى لو لم تكن لها نتائج إيجابية متوقعة. لأن طاقات الروح تشبه طاقات الجسد، في أنها تنشط بالممارسة وتتضاءل بالإهمال، فمثلاً: الذي يدرس يصقل علمه، والذي يبذل المال يغذي موهبته من الكرم، والذي يرشد الآخرين يعمق في ذهنته المفاهيم التي يخلعها عليهم. ولعل إلى هذا المعنى يوحي الحديث: (ضع المعروف في أهله وفي غير أهله: فإن كان أهله فكفاك ذلك، وإن لم يكن أهله فأنت أهله).
ب ـ إن كل إنسان: فرد من الأفراد، واقف في مصاف الآخرين لبناء نفسه. أما إذا تأهب لاستقبال الآخرين وبناءهم من أية ناحية من النواحي فإنه بنسف هذا التأهب يخرج عن مصاف الآخرين ويغدو فوقهم، لأنه يفكر تفكيراً أعلى من تفكيرهم. فمجرد هذا التفكير خير رفعه فوق الآخرين، وعمل من أعماله النفسية، كما في الحديث النبوي: (نية المؤمن خير من عمله) فإذا نفّذ ذلك التفكير وقام بأي عمل، فإنه قبل أن يصل عمله إلى الآخرين (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً).
ـ إن الإنسان قد يعلّم غيره، فلا يؤدي له مستقبلاً تحية المتعلم إلى معلمه. وربما يحسن إلى سواه، فلا يشكره على إحسانه فيظن أنه وضع المعروف في غير أهله، وأن سعيه قد ضاع.
ج ـ إن أكثر الذين يتلقون المعروف من غيرهم، إنما هم الذين يشكون نقصاً يحوجهم إلى معروف غيرهم وهم من الدرجة الثالثة، التي لا تقدم ولا تؤخر وفيهم أصحاب: العقد، ومركب النقص، أو العظمة، أو الجهل المركب، أو سائر التركات الثقيلة التي تولدها الحاجة.
ومن يعاني من داخله، لا يصح أن يتوقع منه القيام بواجباته كاملة تجاه الآخرين. فهم غالباً دون الناس العاديين والمفروض في عامل المعروف أن يكون فوق العاديين، فإذا توقع أن يبادلون معروفه بأفضل منه، فقد أراد لنفسه أن يقف موقفهم وأن يقفوا موقفه، وهذا ما لا يكون فعليه أن يحاول البقاء في موقفه قبل أن يحاول تغيير موقفهم، حتى لا يخيب.
ليس للإنسان شيء بالمعنى الحقيقي للملكية، إلا سعيه، لأنه يستطيع أن يوجده وأن لا يوجده، فهو يملكه ملكاً حقيقياً. وهو الشيء الوحيد الذي يملكه.
وسعي الإنسان ثابت، لأن سعي الإنسان صوتاً أو حركة يبقى محفوظاً في أرشيف الكون: فالأصوات موجات ثابتة في الهواء، والحركات تنطبع صوراً في الذرات المحيطة بها.
ولكننا لا نراها الآن، لأننا لسنا مجهزين بالعيون أو الأدوات القادرة على استيعابها. ولكنها سوف ترى: في الآخرة، لتطور العيون فيها. أو حتى في الدنيا، إذا تطورت الأدوات المساعدة على الرؤية.
اضافةتعليق
التعليقات