عالم المشاعر لا زال رهن الغموض ومهما كتبوا فيه يبقى مجرد آراء نسبية لا تطابق الحقيقة لأنه من الصعب اخضاعه لقاعدة عقلية ثابتة فضلا عن صعوبة قياسه مقارنة بغيره من الماديات وحتى ما ستقرأه هنا أيضا نسبي لكنه قد ينوه لحقيقة ما أنت لم تدركها!.
إيمانك بشيء معين قد يزحزحك عنه موقف ما فتذهب لتعيد النظر فيه، وهنا تبدأ رحلة السؤال والبحث، هل يوجد نسيان مطلق؟ هذا السؤال تبادر إلى ذهني حين غابت عن ذاكرتي حادثة معينة من الصعب أن تُنسى، بعد أن صرحتُ بنسيانها كليا كما زعمتُ أمام شخصٍ ما، لم تمر سوى دقائق من ذلك الاعتراف وإذا بها تداهمني من جديد وكلما سألت (كيف) كانت الذاكرة تستنطق حدثا آخرا وهكذا كأنني ضغطتْ على أيقونة ذلك الملف ليظهر كاملا، فهنا بدوري اعتذرتُ من نفسي لتصريحي بالنسيان، لأقرَّ بأنني لن أنسى.
بعد مرور العديد من السنوات عطرٌ قادر على إحياء حقبة كاملة بأحداثها لتتجسد أمامك فترسم إما ابتسامة تحيي نبض القلب أو دمعة حارقة أو حسرة وذلك أضعف الشعور.
وعندما بحثت عن مادة (نسي) في القرآن الكريم والأحاديث الشريفة وجدتها تتعلق بأركان معينة أو تصرف أو حتى حدث وهذا ما وجدته قليل متمثلا في قضية نسيان السمكة التي اصطادها رفيق النبي موسى عليه السلام بعد أن أعدها للغداء لتشق البحر وتعود حية وفي هذا الفعل نُسبَ النسيان لفعل الشيطان حيث ورد في قوله تعالى (قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ ۚ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا) (الكهف63)، وهذا حدث لغاية إلاهية_ من يحب أن يبحث عن علة النسيان في تلك الحادثة_.
الشاهد لم أجد ما يدل على نسيان شخص أو حدث مؤثر في حياة الناس، قبل أن تطرحوا أمثلة أنكم نسيتم أشخاصا فأنا حضرتُ إجابة لذلك أيضا أوضحها بعد قليل.
هل نحن ننسى حقا!
هذا ما أردتُ الغوص فيه، كل ما هو غير مهم في حياة الإنسان والتصرفات اليومية المعتادة والتي لا تستنزف كمية من المشاعر فإن الذاكرة لا تحتفظ بها من الأساس فالأشخاص العابرين الذين لم يشكلوا جزءً مهما من حياة الانسان فالذاكرة تحتفظ بهم ثم تتخلص منهم خلال مدة معينة لذلك بعض الأشخاص لا نتذكر أسمائهم وأحيانا حتى أشكالهم تبدو كأطياف.
أما ما يشكل أهمية ويستنزف كمية كبيرة من المشاعر سواء الحزن وضده والأول أكثر ديمومة هذا يستنطقه أقل موقف أو كلمة مشابهة أو عطر ما وحتى الهيئة المشابهة ولنتعمق أكثر حتى النظرة قادرة على احياء ما فيك فهو لم ينسى كما نظن بل نحن استطعنا أن نشغل ذاكرتنا عنه. لنغوص أكثر في الموضوع ونسأل عن الليل، في الليل كثيرا ما نعيد شريط الذكريات فقد نبكي بالرغم من قضاء يوم سعيد، أو نحزن ونتألم ونستجمع المواقف لذلك الليل يشكل عقبة أمام من يريد النسيان لماذا لأن الانسان يكون متفرغ تماما ومسترخي بدنا فيبدأ محرك الذاكرة بالعمل.
أما في النهار المليء بالأعمال فتقل فيه استعادة الذكريات لأن الفرد يكون في حالة انشغال تام، ونقيضه النهار الذي يمر بلا عمل فهو يتحول الى ليل آخر فبمجرد فراغ الانسان تتقافز الأشخاص والأحداث الماضية في ذهنه وهذا ما يحدث مع كبار السن، كمثال بسيط نرى الأجداد والجدات هم الأكثر استعدادا على قص القصص الماضية واستذكارها لأنهم ببساطة يعيشون فراغ ذهني مرافق للفراغ البدني.
فأنت لا تنسى شيئا بل تنشغل عنه بشيء آخر وأنت لا تنسى أشخاص بل تنشغل عنهم أو يزداد وعيك لتفهم أنهم كانوا غير مناسبين فتبدأ بإهمالهم الذاكرة، ويستطيع أي فرد أن يستثمر هذه النقطة في استبعاد أي شخص أو حدث لا يريد استذكاره بالانشغال عنه فقط، وهذه الطريقة هي الأجدر للتخلص مما احتضنته الذاكرة، فلا الادعاء بالنسيان، ولا تلك الأشعار التي تحمل عنوان (نسيت)، فلا وجود لتلك الكلمة التي تسمى النسيان بل هي نسبية كما هذا المقال!.
اضافةتعليق
التعليقات