يقول فريدريك نيتشه: "ما لا يقتلني يجعلني أقوى".
القوّة رمزٌ محفّز، وذاتٌ تعتمد على الثوابت، داعمة لها في كلّ الأزمات، حتى في أيام السعد. وإنّ من يُصرّ على الموقف الذي يُنجي البشريّة من زعانف التخبّط وأبعاد الفوضى على مختلف توجّهاتها، ضامنًا بذلك الأمن والأمان للنهج، وحافظًا لماء وجه المجتمع من الانقسامات والطبائع، فهو من أعظم الخلق في الخليقة.
في رسول الله صلوات الله عليه وآله، نجد تلك الروح المفعمة بالضوابط، والملهمة بالخيرات، وقد فُوّض له أمر إدارة البشر، بمحاسن أخلاقه، وجملة خصائصه التي خُصَّ بها دون غيره من الأنبياء والرسل صلوات الله عليهم.
قال تعالى: "وما أرسلناك إلا رحمةً للعالمين".
فعُمق التواصل مع الناس يتطلّب الخبرة، وكفاءة التدبير، والبصيرة المتبصّرة من نور العرش، وجمال الصبر في الأزمات، وعنق الخلد في آيات الله سبحانه، ليكون نبيّنا الأكرم للعالمين نذيرًا وبشيرًا.
رسول الله، مشروع استنهاض
ولكي يمتلك قناة التهذيب وشدّة البأس، لا بدّ من لطفه الخفي أن ينتزع من قلب المجتمع أوهامه وخبائثه، وكلّ ما يضرّ بسلوكه وتداعيات مواقفه.
وحتى تكتمل صورة آفاقها في الوحدانية الكبرى، لا بدّ أن يستفيق المبدأ على شعار يُنجيه من الهلكات.
لأنّ الزمن، زمن التداخلات والاختلافات، وزمن العداء الشاهر، والبوق الذي يهزأ من الحقّ وأهله، فالصرامة مطلوبة هنا، محلّها في ميزان النفوذ، وقدرة الأخذ بيد الحديد، وتجليها بالفضائل المتوّجة بالرحمة واللاعنف.
وذلك أمر يعود على أمة الصلاة والدعاء بالحذر من هبّات متكرّرة من هنا وهناك.
رسول الله، وفلترة الأفكار
إنّ لقوى الشرّ تخبّطًا غير مستوٍ في المقام، وإنّ الداعم لها هو تهوّرها، وافتقادها للتوازن، وسوء مفارزها الفكريّة، وعمق التخاذل في مواقف المواجهة.
على مدى التأريخ، نجدهم فارزة تجوب الأماكن الضيّقة، الفارغة من التهذيب، تعوم أرض المداهمة باستفزاز غريمها وسط التناقضات النابعة من مسيرة ثقافتهم.
استحكمت تجاربها من خلال نفوذها الظالم، المتمثل بالقتل أو هتك الحرمة، أو اختلاس النظر الحاسد لرجالات الله ووجودهم في ساحة التغيير.
لكنّ الله سبحانه وهب البشرية "فلترة" لا نظير لها، من شخوص الخير والجلالات العظمى، فكانوا هم الشيفرة ذات الأبعاد المتقدة بالرحمة، والعبارة السرية بينه وبين خلقه، حتى شهدت بسيرة الصفاء لرسولنا الأكرم عليه وآله الصلوات.
فلا يوجد شيء أقوى من لغة الصبر المغلّفة بالحنكة والفطنة على المكائد، ولا تعبير أعمق من موروث السكوت على الجاهل مع احتفاظ النقد في الوقت المناسب، لأنه اللطف المستنتج من واقع الكلمة التي يؤمن بها.
فلن يتغلب على الفشل إلّا من صمّم على النجاح بحذق تام غير مرتاب، وعبور مفارز بقفزات مستوية، راغبين الفوز بالآخرة وشفاعة النبيّ الأكرم صلوات الله عليه وآله.
يقول والت ديزني: "كلّ الشدائد التي مررت بها في حياتي، وكلّ مشاكلي وعقباتي، قوّتني".
حقًا! فجودة كلّ صلابة وشجاعة، المبطّنة بالخُلق العظيم، أداء وفكر لا يُهزم.
وقد ورد في صفات رسولنا الأكرم:
(كان يتعامل مع الناس بعاطفة أبويّة تتفجّر حبًا ورحمة، وعطفًا وشموليّة مطلقة لكلّ الفضائل).
(ومن الصفات القياديّة للرسول صلى الله عليه وآله: العناية بأصحابه وتقديرهم، الصبر والحكمة، القدرة على امتصاص النكسات والانتصار عليها، التواضع وقرب بابه للجميع، العفو والصفح، العزم والجدّية، والرؤية الاستراتيجية في بناء أتباعه، وترسيخ مبادئ الإيمان في نفوسهم).
هكذا يحكم رجالات الله.
ولنا في رسول الله الأُسوة الحسنة، وقد علّم الإنسانيّة، وطوّر مفهوم التحدّي بالحكمة النابعة من الغيب والشريعة، وسعى إلى إتمام الفكرة على مبدأ التعقّل وإدراك الموقف قولًا وفعلاً، وكيف تتوصّد المقالب، وكيف تُعمّر الحواضر من كفّ العطاء ونعمة السخاء، وخدمة الناس في السرّ والعلن.
رسول الله، والقلب الرحوم
وقد ورد في الكافي للكليني، ج٢:
عن أبي عبد الله عليه السلام وذكرَ رسولَ الله صلى الله عليه وآله، فقال:
"قال أمير المؤمنين عليه السلام: ما بَرَأَ اللهُ نَسَمَةً خَيْرًا من محمَّدٍ صلى الله عليه وآله".
حقًا، إنه النبيّ الذي لا مثيل له ولا نظير، كشخصيّته المتكاملة: رحمةً وأخلاقًا، وصلابةً وقيادةً وحكمة، ونسمة خيرٍ للكائنات.
فقدناك يا حبيب قلوبنا، ونحتاج إلى ظلك في الملمّات.
وبما أنّ رسول الله هو الأعلى والأعظم مقامًا في الخليقة، فلا شكّ أن مصيبته هي الأشد، ومن أعظم المصائب.
ففي الكافي الشريف، يقول مولانا الباقر عليه السلام:
"إن أصُبتَ بمصيبة في نفسك أو في مالك أو في ولدك، فاذكر مصابك برسول الله، فإنّ الخلائق لم يُصابوا بمثله قط".
قد وسِع قلبه الرحوم كلّ العالم، وسقى كلّ الحضارات نبعًا صافيًا من وجوده وأثره، وترك لنا عترةً نهتدي بها في تقلّبات الماضي والحاضر.
وفي البرهان ج٢، رواية عن أمير المؤمنين عليه السلام:
جاء رجل من الأنصار إلى النبي صلى الله عليه وآله، فقال:
يا رسول الله، ما أستطيع فراقك، وإنّي لأدخل منزلي فأذكرك، فأترك ضيعتي وأُقبل حتى أنظر إليك حبًا لك، فذكرتُ إذا كان يوم القيامة وأُدخلتَ الجنة، فرفعتَ في أعلى عليّين، فكيف لي بك يا نبي الله؟
فنزلت: {ومن يُطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا}.
فدعا النبي صلى الله عليه وآله الرجل، فقرأها عليه، وبشّره بذلك.
رسول الله، هيبة لا تُكسر
علينا أن ندرك أنّ للكلمة سطوةً في صدور راغبيها.
فحين يُلزم راعيها نفسه بقاعدة الطاعة المطلقة دون تردّد، يكون من الذين حباهم الله تعالى، وخصّهم بكرامته.
أما المناهض المعادي، المقنّع بالنفاق، فلا يفهم لغة النور، ولا يعي إلّا العداء لسيرة النبلاء.
لأنه التافه الذي تقمّص ثوب الذلّ والفظاظة في أسلوبه، وقد باع إدراكه لمطبات الابتلاء، يُقايض الطيّبين بسعره الرخيص من الوجود.
إنه الضعف الذي يُخالج فؤاده، ونفسه الشحيحة، ليُلوّث بها مختصر أفعاله وكلماته.
يستخدم نفوذه حتى يلج الواقع بسطوة المغرور الذي لا يرى من الحقيقة سوى دفّة مضاربة، ليقول للعالم: "أنا هنا!"
اليد المعادية تسعى لكسر هيبة رجالات الله، وتترقّب عن كثب موقع إطلالتهم، تستخدم وسائلها وأنذل طرقها لتعيب شخصهم، وتقتل همّتهم، ربّما بهتاف أو بسلاح أو بثغرة نفاق، وهي بذلك تفضح نفسها وتُعرّي بطائنها، وتُعرّف عن مشروعها الأخس وسط مبادئها المبتذلة.
هناك فرق بين أن تكون العباءة مكتنزة بكتاب الحقائق، وبين عباءة تلمّ شعث الشيطان في تلابيبها.
هنا الفارق على ذمة الاختيار:
فمن اختار جلباب التقى، وخدمة المذهب، وعمارة الناس بالحُسنى، يكون مثقَلًا بالتعقّل والأفق البعيد، تحوطه روحانيّة الكلمة، وهالة المبدأ للشريعة، لا تبارح كلّ مواقفه وألفاظه.
وبين من كان لباسه دفين المكائد والبغضاء، فأحداق ضميره لا ترف، وفلتات لسانه لا تستقر إلّا على إثبات نفسه، وإرغام الحاضر على نفوذه الطائش.
لكنّ رجالات الله، أكثر شجاعة، وأكبر قوّة، وأعظم تصميمًا، وأرقى موقفًا ممّا نعتقد ويبدو.
فهم من أهل الله وأحبّاؤه، حروفهم حروف الله، وقولهم قوله، وقلوبهم مفعمة بنوره، تأسّيًا بقدوة الصالحين، وسيّد المرسلين محمد صلوات الله عليه وآله وسلم.
وكيف لا، وفي شخصه تكمن أسرار الغيب ومنشأ التكوين، وهو الذي شهدت له سدرة المنتهى، وملائكة السماء، وهو صاحب السكينة، وسرّ الله الأعظم.
اضافةتعليق
التعليقات