بوسط العاصمة البغدادية العريقة هناك بالقرب من الميدان يقف المتنبي بشموخ ليحرس شارعه الادبي و يرحب بزواره المثقفين.. تتقابل الارصفة فيه حاملة ملايين العقول المنثورة وسط الاوراق..
فمن يمشي بذاك الشارع يُصدم من رائحة المكان الممتزجة بالأدب و الثقافة،، رائحة الكتب الدافئة التي تخترق حاسة الشم و تعانق الروح..
مئات الكتب العملاقة تتوسد الارصفة و تشغل عيون المارة بعناوينها و بجمال ترتيبها المنظّم..
بينما اهيم بالجنة الادبية استوقفني منظر مميز بوسط الشارع..
رجلُ خمسيني يضع خلفه براويز معلّقة و امامه موسوعة مميزة جداً من الكتب العالمية و المحلية.. تقدمت و كلي دهشة سألت بهدوء: -أهذه البراويز شهادات تخرج تخص الادب والكتب؟
ابتسم الرجل و اشار الى كتاب الحليب الاسود لإليف شافاق و قال: ربما يعجبك هذا لأنه يحاكي مشاكل المرأة..
صمتت قليلاً و كلي فضول لمعرفة سبب وجود تلك الشهادات!
_هل لي ان اسأل يا عم ماذا مكتوب بهذه البراويز؟!
انحنى ثانية ليأخذ كتابين آخرين احدهما بعنوان: كيمياء المحبة.. اعطانياه و قال: لربما يفيدك هذا حينما تشتاقين لملكوت العشق الإلهي.. والآخر بعنوان: كيف تكونان اماً واباً افضل، ثم قال: فهذا حتماً ستحتاجينه بيومٍ ما..
صمتت دون اي كلمة.. احسست وكأنني ادور بحلقة فارغة لوحدي امام ذاك الرجل الغامض!
اشتريت الكتب الثلاثة منه، فقد كانوا يناسبون ذائقتي حقاً.. ثم هممت بالإنصراف، ما ان مشيت الا وسمعته يقول: هذه شهادات تخرجي من كلية الطب..
نظرت له بدهشة مصحوبة بالصمت المليئ بالتساؤلات ثم قلت: عذراً و ماذا تفعل هنا بالوقت الذي يجب ان تنقذ فيه ارواح الناس بالمستشفيات!
قال و كلّه يأس: عانيت كثيراً في مسيرة بحثي عن وظيفة شاغرة بالمشفيات ثم حين زاولت عملي بعدّة اماكن كان وضعي كمن يترقب نزول حقه المعلّق بقمة الشجرة العالية!! برغم وجوده الا انه محروم منه.. يعطوني اياه شهرا و يحرموني منه آخر.
ناهيك عن عدم توفّر الادوات اللازمة اغلب الاوقات بل و حتى عدم وجود الطاقم الطبي الكافي للمساعدة.. ثم تظهر لي اماً فاقدة فجأة وتلومني على إبنها الذي مات اثناء إسعافي له.. و تجهل بأن سبب ذلك تأخرهم بمراجعة الدكتور لعلاجه، ام تلك العشيرة الغاضبة التي تطالبني بثارها لخطأ طبي طفيف قد خرج من يدي على شيخهم..
و الكثير من الامور الغائرة بحزن في اعماق صدري.. و ها قد رسى بي الامر ببائع كتب بشارع المتنبي على الاقل هنا لا اظلم و لا اُظلم.. بل احاول قدر الامكان بأن اعالج عقول الناس بإختيارهم الكتاب المناسب الذي يغذي عقلهم ويعالج ارواحهم..
انا.. تركت المكان بتوّجع، اتحسّر على الفوضى العارمة ببلاد الثقافة و الادب و على تمدنّهم الضائع بين صفعات الزمن.. على حقوقهم المسلوبة و آهاتهم الغير مسموعة..
اكملت مسيري بين الارصفة الثقافية بهمهمة جريحة.. يا ابا صالح أما حان الظهور؟!
اضافةتعليق
التعليقات