خرجت "هاجر" مع أمها للنزهة في يوم العطلة، ترتدي فستانها الابيض وشرائط الستان المعلقة بطرف جديلتها، تراقص الفراشات بنغم سعادتها، على حافة ثوبها زهور مطرزة بالوان ملفتة، تربط على قدميها دانتيل ابيض ينزل على حذائها، لتكمل اناقتها، جلست بين الازهار تلامس اطرافها الناعمة، نسمات الهواء تحمل اوراق الاشجار من الارض، تركض مسرعة تحاول ان ترجعها لحضن الشجر، ابتسمت الام لبراءة "هاجر"، وتذكرت ايام طفولتها.
لعبت الذاكرة معها كما تلاعب الفراشات هاجر، ايام مضت لكنها بقيت تحتضر في روح الام، التي لم تعش طفولتها كهذه الطفلة المدللة، ردفت عينها ولم تذرف دمعها خوفا من ان تفسد فرحة طفلتها، تجرعت حسرتها ككل مرة وحاولت ان تجعل شفتيها تنفتح لابتسامة صغيرة، هاجر لم تعرف من الدنيا بعد غير السعادة والفرح، طلباتها تنفذ قبل ان تتحدث، لم تذق ما ذاقته امها من كأس المر والفقر، لم ترتدِ فستان مزخرف، حتى تلك الاسطورة التي حكى عنها الاجداد لم تعرفها يوما، من ابنتها سمعت سندريلا والاميرة فلة والاقزام، انفاس الماضي تضيق على صدرها، دوامة من الافكار تغرق عواطفها وايامها الماضية في بحر من الذكريات.
ايام لا تعود ولا تُنسى، زمن كان سيمته الفقر ولكن فيه الوجوه غنية، وعند الغنى افتقرت الوجوه، براءة الطفولة تظهر على ملامح الصغار، وملامح لا تجد لها تفسير على الكبار، تحدث نفسها عن طفولتها وماذا تفعل عندما كانت في عمر "هاجر" تغسل الصحون، وتخيط الملابس، وتدير البيت مع امها، مضى على عصر الام ما يقارب الاربعين عاما، تغيرت العادات والتقاليد، كل شيء تغير لم تكن تتوقع انها ستعيش هذا اليوم وبهذه التكنلوجيا، التي ترفض ان تستخدمها ليس لشيء فقط، لانها مازالت تعيش في زمن الابيض والاسود بقيت محافظة على تراثها واصالة روحها، ترفض ان تقلد المسلسلات التركية والهندية و ما ينشر على الانترنت، معقدة من زمن الابيض والاسود هكذا يقولون عنها.
على جانب الحديقة بائع ورد يحمل على كتفه سلة من الورود الملونة، ويصدح بصوته امام المتنزهين ورد.. ورد.. سمعت "هاجر" صوت البائع، اسرعت نحو امها تسحبها من يدها نحو البائع لتشتري وردة، خطواتها سريعة لا تقاس بخطوات امها الثقيلة، عند باب الدخول يقف هذا البائع، يزدحم المكان من حوله، بائع الحلوى التي كانت على اشكال عرائس، وبجنبه بائع يعرض بضاعته على الرصيف، لوحات رسم والوان للأطفال، يجلسهم على الارض ويلون بشرتهم ويرسم على وجوههم الفراشات والاغصان وصور الكارتون، لم تعرف الام ماذا تريد ان تشتري "هاجر"، تدور حول الباعة، قررت بعد وقفة طويلة ان تشتري، لكنها لم ترغب بهذه الوردة الصفراء الذابلة من الشمس، نثر البائع كل الورود لتختار منها ما يعجبها، تهز برأسها: لا اريد من هذه يا امي..
على الحائط يعلق صناديق مغلقة في داخلها وردة بيضاء لم يمسها من قبل احد، حتى الشمس تدخل عليها من فوة من الاعلى، محمية من الهواء والذبول، صغيرة لا تستطيع ان ترى كل هذه الصناديق، قفزت نحو البائع ورفعت يديها، عرفت الام ماذا تريد ابنتها، انزل البائع الصندوق الابيض، اخرجت الام حقيبتها ودفعت النقود للبائع، حملت "هاجر" الصندوق ، وركضت نحو الالعاب.
اندفعت نحو طفلتها خوفا عليها، جلست تنظر الى طفلتها وهي تحافظ على الصندوق، نفذت طاقة "هاجر" وبدأت تشعر بالجوع والنعاس، لاحظت الام ذلك، جاءتها "هاجر" وعينيها لا تكاد تفتح من النعاس، رغم حالتها الا انها متمسكة بصندوقها، حملت الام طفلتها في طريق العودة الى البيت، ارادت ان تعرف هل اسعدت "هاجر" اليوم؟!
اجابت هاجر بصوت ممزوج بنعاس الصندوق البيض: يا امي..
فكرت الام في امر الصندوق، هناك شيء كثيرا ما كان يخطر في بالها واظنها عرفت كيف ستحل هذا الامر، استغلت الام الطريق والصندوق لتقول لطفلتها فكرتها، "هاجر" ما الذي اعجبك من هذه الوردة البيضاء؟ ولمَ رفضت شراء تلك الزهور التي كانت معلقة على كتفه؟!
لا يا أمي الا تنظرين اليها، انها ذابلة، اوراقها ممزقة وعليها الحشرات تقترب، اما الوردة البيضاء جميلة ولم تقترب منها الحشرات حتى البائع لم يلمسها بيده بل حملها بالصندوق، وانا ايضا لا اخرجها من الصندوق واحافظ عليها.
ابتسمت الام: احسنتِ يا "هاجر" انتِ صغيرة ولكن اختيارك كان اختيارا صائبا يا ابنتي، هذا الموقف اسعدني كثيرا اليوم..
لا بأس سأقص عليكِ قصة السر في اختياركِ لهذا الصندوق، افاقت من غفوتها: قصة يا امي، نعم اسمع..
ابنتي ان الورود التي كانت حولها الحشرات وكانت ذابلة لا بريق لها ولا عطر، هي الفتيات التي يعرضن مفاتنهن امام الناس، لا ترتدي الحجاب الشرعي كالعباءة وتزين نفسها، وتشبه نفسها كبقية الفتيات، فتكون جميلة في نظر الناس لكن ذابلة لا جوهر لها، ولا احد يشتري وردة لا عطر لها، تقترب منها عيون الشباب فتتعرض للتلوث وتكون سبب في دخولهم النار، اما الوردة في الصندوق، فهي التي تحمي نفسها من عيون الاشرار، وتخاف على نفسها من عقاب الله، فلا ترتدي العباءة المزينة والتي تفصل جسدها، تحمي نفسها من التلوث النظري، ومن سهام ابليس التي تبدأ بنظرة، وهذا الصندوق هو حجابها وسترها وعفافها بالشكل الذي امرها الله، والكل يرغب ان يشتري هذه الوردة، وانتِ واحدة منهم.
امي اريد ان اكون كهذه الوردة، ارتدي الصندوق حتى يرضى الله عني، قهقهت الام وباركت في ابنتها..
وعدتها ان تخيط لها عباءة زينبية وترتديها في يوم (15) رجب عند ذهابهم الى مجلس العزاء المقام في الحسينية لاحياء استشهاد السيدة زينب (عليها السلام) لتكن على نهج السيدة الكبرى.
تسأل البنت امها: ولماذا هذه السيدة يا امي هل كان عندها صندوق مثلي؟
اختنقت الام بالعبرة، واغرقت عينيها من الدموع، يا حبيبتي انها فخر المخدرات وعقيلة بني هاشم، كانت ترتدي حجابان الحجاب الاكبر والحجاب الاصغر، فالحجاب الاكبر هو ما يمنعها عن عيون الناس فلا يرى لها ظل او خيال، فعندما كانت السيدة زينب (عليها السلام) تزور جدها رسول الله (صلى الله عليه وآلة وسلم) كانت تخرج ليلا يحيطها اخويها الحسن والحسين وخلفها العباس يمحى اثار اقدامها سلام الله عليهم فلا يرى منها شيء.
حتى في زيارة بيت الله الحرام فإن السيدة (سلام الله عليها) تطوف حول البيت الحرام واخوها الحسين (عليه السلام) على يمينها وابا الفضل العباس (عليه السلام) عن يسارها واخوتها وابناء اخوتها وبنوها من خلفها وامامها، حتى اخر يوم من عمرها، بقيت رمزا كأمها الصديقة الكبرى، وفي يوم العاشر عندما تمادت بني امية على ال الرسول (صلى الله عليه واله وسلم) سلبوا الحجاب الاكبر، وبقي الحجاب الاصغر فهو محفوظ ولا يمكن ان يهتك، فعندما نظروا اليها متحيرة مع الايتام غضوا عنها لهيبتها وجلالة قدرها، وخوفا من غضب الله عليهم، على مأساة الواقعة الاليمة بقيت محافظة على صلاتها وحجابها، وبقيت ما بقي الدهر زينب الهاشمية، وان شاء الله يا ابنتي نذهب الى مجلسها ونشارك في العزاء.
امي: اريد ان ارتدي العباءة الزينبية واذهب معك للسماع عن هذه السيدة.
حسنا سنذهب ان شاء الله.
اضافةتعليق
التعليقات