حرفٌ بحرف والصورةُ تكتمل، هكذا ازدهرت حيوات البشر منذُ أن أسكنها الباري أرضاً لم تنبس ببنت شفّة قبل وطئهم إياها، ولم تعِ أثر اللغة على نموّها قبلَ امتزاج الكلمة بالحركة والتي ما إن وجدت حتى باتت النفوس تعي معنى الوجود.
فاقتضت حكمة الحروف أن تربط الأثر بالعمل لكي تكونَ صيغةً فعّالة على صعيد الحياة والمجتمعات، ولقد نشأت فكرة اللغة عند البشر منذُ أكثر من 5000 عام، ترتدي سليقة النوايا والمقاصد وتختلفُ بين جهات المعمورة ولكنّها في سماء الرب كانت حاضرةً منذُ الأزل، تعبدُ الإله بمعناها الكبير حتى أهديت لأبينا آدم (عليه السلام) في ظل الأسماء الخمسة.
فالحرفُ في مباني الكلم لا يُعتبرُ بفرديتهِ وإنما بقدرتهِ العجيبة على الإنتاج اللامتناهي للكلمات والمقاصد المعنوية والأدبية والعلمية وغيرها من آفاق التواصل الذي كان على البشرية لزاماً مقصوداً.
فلو طرح الفكر سؤالاً عن سبب قلّة الحروف وكثرة ما قيل وما كُتب منها، سيكون الجواب بشكل بديهي بأن الأثر لا تحددهُ نقطةُ البداية وإنما نوعية هذهِ النقطة وهنا تتجلى العظمة، فإن كان للحرفِ دورٌ في إثراء عقولنا.. فما هي رسالةُ الحرفِ لأرواحنا؟
تتمحورُ أذهان البشر كافّة عند سؤالهم عن غاية وجودهم، أو ما يريدونهُ في هذه الحياة حول شكل موّحد من الإجابات؛ ألا وهو: الأثر، لذا تبرمج هذا الكون العظيم على ضرورة التطوّر والتنمية لكل المخلوقات حتى يكون لدورهم ورسالتهم الأثر المرجو والغاية المطلوبة من قبلهم، فقامت على إثرها فكرة المعلّم التي طرحها القرآن الكريم بهيئة "المذكّر" الذي يطرق ناقوس الفطرة فتبدأ الأرواحُ بالعمل.
فكان لتعددية المؤسسات التي تبّنت العمل التنموي للبشرية أهمية فائقة في شكل الواقع المجتمعي اليوم، ولكن هل يعقل أن تكونَ تلك المؤسسات قد تفرعت من مصدر واحد يغنيها ويثريها في كل المجالات أرضيةً كانت أو سماوية؟
"جعفر الصادق (عليه السلام)" المفكّر الأعظم أو من يسمى بصاحب المدرسة العلمية الجعفرية، إمامٌ أرسى العلم على برِّ الدين وألغى هيمنته في ظل شرحه لأصول نشأة الكون وسرّ النور والخوض في الفيزياء الفلكية والكيمياء التجريبية التي كان فيها مناراً لامعاً، لكنَّ هدفهُ لم يكن العلم فحسب.. بل كان مراده هو خلقُ حروف تحمل العلم عن دراية لا عن تناقل فارغ، كما قال ابنه ُ الإمام الرضا (عليه السلام):" كونوا دُراةً ولا تكونوا رواةً، حديثٌ تعرفونَ فقهه خيرٌ من ألفٍ تَروونهُ".
فبلغَ عددُ تلامذتهِ في ظل السلطة الجائرة 4000 تلميذ كُلٌّ يقول حدثّنا جعفرُ الصادق (عليه السلام)، فلم يكن الإمام عالماً فحسب بل كان مُعلّماً، وهذا ما جعل صرحهُ العلمي صرحاً يوّلدُ حروفاً ناطقة، لا أفواهاً تثرثر بالعلم من دون معرفةِ حقيقته، و من دون أن تخلقَ لغةً تربطُ بين الإدراك ومنشأه، فاللغةُ الصادقية هي لغةٌ لا يعرفها علماء التجريد الذين يفصلون العلم عن كل روابطه ويتشدقون بالصروح الكونية التي ينسبونها إلى الطبيعة من غير أن يعرفوا ظاهرها وباطنها، بل عرفها من حملَ على عاتقهِ الغوص فيها من دون تشددٍّ ولا طائفية، فما زال علماء الشرق والغرب يتنعمّون في نظريات مولانا الصادق (عليه السلام) حتى يومنا الحاضر، شاهدين على إعجازِ هذا الصرح العلمي الإلهي الذي وصل إلينا على لسانِ الحروف الصادقية التي خطهّا على درايةِ أن الحرف سيكون لغةً ذات يوم... فكونوا حروفه.
اضافةتعليق
التعليقات