هناك في الأمس البعيد حيث الضياع المفرط في عمق غابة أحاطتها الذئاب مكشّرة عن أنيابها القاطعة متربّصة بالحملان الهائمة في وديان التيه المقفرة، عندما كانت القافلة تسير ببطء في دروب شاحبة، متشبّثة بحلم من عبق الليمون أثناء طيف باهت، شعر نبيّ القرية أنّ الأجل قد لا يمهله وقد حان يوم الميثاق المأخوذ والجمع المشهود ليكشف عن الينبوع الأسطوريّ الذي غيّبته الأحراش والأشواك فظلّ غائبًا هناك في قاع العتمة الفسيحة، لذا أوقفهم عن المسير إذ لا فائدة من السير في طريق ممتدّة نحو الخواء حيث السقوط المحتم في السفح العميق، فتوقّفت القافلة..
كانت الشمس ترسل أشعتها الهاطلة كرشق غزير يصل إلى أقصى نقطة مغيّبة في حنايا القضايا المستعصية، تلك التي تتشابك وتنعقد بصورة عصيّة على الانفلات، رافضة الانصياع كفرس جموح، فاتّخذ لنفسه منبرًا ليكون أقرب من الشمس؛ منبع الدفء والضياء يستلهم من طاقتها الفيّاضة بواعث النموّ لميثاقه الذي ظلّ كامنًا رغم استفحال الظهور.
كان لابدّ من عودة من تقدّم، قد يقرّر مائة ألف أو يزيدون نسيان العهد!
عندها ستنشب وحوش القحط والجفاف مخالبها في أجساد أهل القرية البضّة فتفور سيول الدم ماضية تسلك متاهات البؤس في الأدغال..
كانت الشجرة الهرمة واقفة هناك كشاهد حيّ على كلّ حرف ينزلق من فم النبيّ ويشقّ رسمًا متعرّجًا في تلك اللوحة المتلوّنة بألوان زاهية تارة وقاتمة تارة أخرى، وقف فيهم خاطبًا بأعلى ما أوتي من قوّة قادمة من أعماقه السحيقة: أيّها القوم سيشتدّ بكم القحط من بعدي وتعطشون، لا تلهثوا وراء السراب، ها هنا ماء الخلود، ثمّ كشف الأحراش المتراكمة عبر القرون المتمادية في القدم؛ ليظهر الغدير الساحر رقراقًا عذبًا مهولًا عرضُه ما بين صنعاء وبصرى فيه أقداح عدد النجوم من فضّة يثير خريره انتعاش السهول وابتسام البنفسج..
تهافت أهل القرى فرحين مستبشرين باستكمال النبوءة وظهور الينبوع كلّ يروم الارتواء ولكن هيهات!
كلّما اقتربوا منه ابتعد عنهم أكثر فأكثر، أصابهم البُهت! ماذا يحدث، ألم يُفتح الصندوق القدیم وتُکشف خرائط الكنز المغيّب؟!
اشتدّ الهرج والمرج وتكاثر اللغط وعلت أصوات الاستنكار، كان الأمير النبيل واقفًا بين الحشود يراقب الموقف حائرًا لا يعرف ماذا يفعل، أومأ إليه النبيّ داعيًا إيّاه بارتقاء المنبر، فداس بقدم راسخة أولى الخطوات متجاهلًا سطوة الحقد وصراخ الحسد النابت في هياكل الجهل.
عندما صعد، صاح النبيّ بالقوم قائلًا: لابدّ من ساقٍ، ثمّ رفع يد الأمير عاليًا فانبلجت من التحام كفّيهما هالة غزيرة من النور مازالت تضيء الظلام..
اضافةتعليق
التعليقات