في واقعة الغدير نجد هناك شخصية رسمت واقعة الغدير بحروف الأبجدية ونقشت تلك البيعة بمفردات أدبية لازالت تقرأ حديثا اليوم حول الشاعر الديلمي.
من أصحاب الشريف الرضي وأحد تلامذته وترعرع في ظله وكنفه.
فلازمه وتلقى العلم منه وترك مجوسيته فقد كان مجوسي الأصل وأسلم على يديه واعتنق مذهبه فكان التشيّع شغاف قلبه وخالط لحمه ودمه فجند نفسه له، فكان جندياً أميناً ومدافعاً مخلصاً عن مذهبه العلوي.
ولادته ودينه..
ولد أبو الحسن مهيار بن مرزويه الديلمي البغدادي عام 334 هـ في عصر النزاعات العسكرية والفكرية ففي ذلك الوقت نبغ الشيخ الرئيس ابن سينا والمتنبي والصابي وابن نباتة والشريفان المرتضى والرضي وتبعهم مهيار الديلمي الذي أصبح الشاعر الوحيد بعد وفاة السيد الرضي.
ينتسب مهيار إلى أرض الديلم، قال ياقوت الحموي: إن الديلم ينسبون إلى أرضهم بهذا الإسم لا إلى أب لهم.
والديلم شعب من ذراري الفرس ينسبون إلى أرضهم التي تقع في القسم الشمالي من بلاد فارس ويحدّها من الشمال جبال الجولان ومن الشرق طبرستان ومن الغرب آذربيجان أما من الجنوب فمنطقة قزوين.
وفي هذه المنطقة (قزوين) عاش والدا مهيار وكانا فقيرين فنزحا في طلب الرزق إلى بغداد التي كانت خاضعة يومئذ للنفوذ البويهي وكانت الخلافة العباسية تعيش حالة الاحتضار. والبويهيون ديالمة فارتقب الوالد خيراً في ظل بني عمه فهو الذي تربطه بهم وشائج القربى.
وكان البويهيون أسبق إلى الإسلام من والدي مهيار إذ كانا مجوسيين إلى أن بايعوا عليهم الحسين بن زيد العلوي سنة 250 هـ فأسلم قسم منهم وأسلم القسم الثاني على يد علوي آخر وهو الحسن بن علي الأطروش جد الشريف الرضي لأمه.
لم يحالف الحظ والدي مهيار في توفير لقمة العيش لابنهما الذي لم يكن بأسعد حظ من أبيه فلازمه الشقاء منذ طفولته وحتى شبابه وسقاه الدهر كأس المرارة حتى الثمالة فكان مهيار يشكو الدهر والفقر والناس:
عيشٌ كلا عيــــــــشٍ ونفسٌ مالها *** من لذّةِ الدنيــــــــــا سوى حسراتِها
إن كان عـنــــــــدكَ يا زمانُ بقيةً *** مما يضــامُ بها الكــــــــــرامُ فهاتِها.
وقد رأى والده بعد أن أعياهُ توفير حياة رغيدة لولده أن السبيل إلى ذلك لن يكون إلا عن طريق العلم فأكب على تثقيف ولده.
وكانت بغداد في ذلك الوقت جنة الدنيا وبهجة الناس أو كما قيل: (بغداد في البلاد كالأستاذ في العباد) وموارد الرزق فيها للفئة المثقفة متوفرة، فهي دور الخلفاء ودوائرهم إن صح التعبير ففي قصور الخلفاء والأمراء كانت تلتقي النخبة من الكتاب والشعراء ليصيبوا حظاً وافراً من الثروة والشهرة وهذا ما كانت تصبو إليه نفس مرزويه فدفع بولده مهيار إلى الكتاتيب والمدارس الموجودة في بغداد ليتثقف ابنه ثقافة عربية خالصة تكون سبيله إلى العيش في الحياة.
وأظهر مهيار ذكاء وقدرة على التعلم فاقت تصورات والده حيث حفظ من شوارد اللغة وحفظ دقائق التاريخ وامتاز بذاكرة عجيبة ساعدته على استيعاب الكثير من المعرفة.
ولكن ظن مرزويه خاب في السبيل الذي سلكه ابنه إذ كان الوالد يتوقع ابنه أن يكون من شعراء البلاط العباسي يرخص كرامته ويتذلل في سبيل المال ويستعطف ويتودد الخلفاء والأمراء!!
لكن مهيار آثر طريقاً آخر هو طريق العقيدة والمبدأ طريق نصرة الدين والحق فقد استحكم حب أهل البيت (عليه السلام) في قلبه فلم يمدح أياً من الخلفاء العباسيين الذين عاصرهم وهم الطائع والقادر والقائم، بل أظهر حق أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) في شعره مستقياً في شعره من حياته (عليه السلام) المعارك التي خاضها في سبيل توطيد أركان الدين والفضائل التي اختص (عليه السلام) بها دون سواه من سائر الصحابة، وكذلك تمجيد الثورة المباركة التي قادها أبو الأحرار الإمام الحسين (عليه السلام) في كربلاء ضد الباطل واستذكار المآسي والفجائع التي حلت بأهل البيت (عليهم السلام).
ولقد أحب الشريف مهيارَ وأخذ يسعى في سبيل خدمته والإحسان ليه.
وبقي مهيار في كنف أستاذه الشريف إلى أن لاقى الشريف ربه عام 406 هـ وكان طوال حياته الحامي الأمين والصديق المعين لمهيار وقد أحسّ شاعرنا بالفجيعة التي ألّمت به فمضى يرثي أستاذه برثائيات مفجعة في قصائد عديدة وفي مناسبات شتى، قال في إحداها:
أقريــــــــــــــــش لا لفـــــمٍ أراكِ ولا يدِ *** فتواكلــــــي غــــــاض الندى وخلا الندي
بكر النعـــــــــــي، فقـــال: أُرديَ خيرُها *** إن كان يصدقُ فالشريـــــــــف هو الردي.
وفي هذه القصيدة تفجّع أليم وشعور بالمصاب عظيم فمهيار يبكي من كان عونه وساعده في الحياة.
لكن مهيارَ بعد وفاة الشريف الرضي وابن نباتة السعدي أصبح رجل الأدب والشعر في بغداد بدون منازع.
حتى عدّ في الرعيل الأول من ناشري لغة الضاد وموطّدي أسسها.
قال عنه الباخرزي: هو شاعر له في مناسك الفضل مشاعر، وكاتب تحت كل كلمة من كلماته كاعب، وما في قصائده بيت يتحكم عليه بلو وليت، وهي مصبوبة في قوالب القلوب، وبمثلها يعتذر الدهر المذنب عن الذنوب.
ويقول عنه الخطيب البغدادي إنه كان شاعراً جزل القول، مقدماً على أهل عصره.
وهناك كثير من الكلمات والأقوال في حقه في كثير من المصادر والمراجع اللغوية والتاريخية.
وضع مهيار في مصاف شعراء الشيعة الكبار أمثال السيد الحميري والكميت ودعبل فمن قصيدة له يمدح أهل البيت.
ابن الرومي وإن كان ابن الرومي يقصر عنه في بعض الأحيان ولا يجاريه في نفسه الطويل فكانت بعض قصائده تقارب الثلاثمائة بيت وهكذا اجتمع لديه ديوان ضخم في أربعة أجزاء جمع بين دفتيه (20969) بيتاً موزعة على (409) قصيدة دلت على شاعرية فذة وإبداع أصيل فتربع على رأس الحركة الأدبية في أواخر القرن الرابع الهجري وحتى وفاته عام 428 هـ.
وقال مهيار الديلميّ في بيعة الغدير:
وَأسْأَلُهُمْ يَوْمَ خُمٍّ بَعْدَمَا عَقَدُوا
لَهُ الوَلاَيَةَ لِمْ خَانُوا وَلِمْ خَلَعُوا
قَوْلٌ صَحيحٌ وَنِيّاتٌ بِهَا دَغَلٌ لاَ يَنْفَعُ السَّيْفَ صَقْلٌ تَحْتَهُ طَبَعُ
إنْكَارُهُمْ يَا أميرَ المُؤْمِنِينَ لَهَا بَعْدَ اعْتِرَافِهِمْ عَارٌ بِهِ ادَّرَعُوا
وَنَكْثُهُمْ يَكُ مَيْلاً عَنْ وَصِيَّتِهِ
شَرْعٌ لَعَمْرُكَ ثَانٍ بَعْدَمَا شُرِعُوا .
اضافةتعليق
التعليقات