تمثل العائلة المحور الأساسي والركن القويم في المجتمع الإنساني، وتعتبر هي المكون الاجتماعي الصلد في قلب الأمة، والجزء الأهم من الأجزاء التي يتراص بها جسم المجتمع الطبيعي، لذا يكون ثباتها وقوامها من ثبات وقوام المجتمع الكبير وكذلك فسادها وانحلالها.
ولكن مع الانحلال التاريخي والسقوط الحضاري أصبح هذا الركن القويم ضعيفا مهزوزا لا يولد إلا الضعيف بعد أن كان يتخرج منه العظماء، لذا أضحت التيارات والعواصف تستهدف الأسرة لتعصف بها من كل جانب ومكان من أجل هدمها وتفكيكها وتشتيت أفرادها ليسهل غزوها والسيطرة عليها. ومن جانب آخر غدا الجهل مسيطرا على بنيتها فأصبح ينهش جسدها من الداخل فتاهت في أتون الغزو المعولم الشامل حيث أضحت لا تدري مالها وما عليها، وكانت نتيجة ذلك أن فقدت قدرتها على التصرف وانهارت إزاء الضغوط الخارجية بعد أن تفككت مقاومتها الداخلية. من هنا أصبحت الأسرة المعاصرة في خضم هذه التغييرات والأعاصير لا تستطيع اداء وظيفتها بالشكل اللائق، إذ فقدت عناصرها الداخلية التي تجعلها متماسكة وقوية.
هذا التغيير الثقافي والفكري الذي هبت رياحه التغريبية بقوة على القيم والمعايير الاجتماعية والدينية يجعلنا نقف قليلا من اجل استيعاب الصدمة الثقافية والاجتماعية التي أصابت الأسرة والمجتمع، عبر استرجاع العناصر المعنوية والذاتية التي تحافظ على الوجود المادي والخارجي لهذا الكيان المحوري.
إن أهم الخطوات الأساسية التي تكشف عن أسباب وعلل قوة الأسرة وتماسكها تعتمد على أن التجديد الظاهري والحداثة الشكلي أفقدتنا التوازن الفكري وعدم القدرة على تشخيص المعايير والقيم الحقيقية، لذلك لابد من الرجوع إلى معاييرنا الأصلية والتمسك بها كإطار أساسي نرجع إليه في الحكم والتقييم، وهذه الأطر هي القرآن الكريم وسنة رسول الله وأهل بيته صلوات الله عليهم أجمعين والعقل الفطري السليم.
وقد كان الإمام الشيرازي (قدس سره) أحد عظام الفكر الإنساني المعاصر بقدرته على بيان فكر الأصالة المنسجم والمتوازن مع التغيير الزمني المتوالي، وقد اشتهر الإمام الشيرازي في مؤلفاته الكثيرة بالشمولية لطرحه العديد من الموضوعات وإلقاء الضوء عليها من كافة الجوانب بلغة علمية رصينة في كتاباته لذوي الاختصاص، وبأسلوب بسيط وواضح في كتاباته يتناسب في موضوعيته مع مختلف المستويات، ونقده الدقيق والعميق للمشكلات الراهنة مع إعطاء الحل المناسب والعلاج الملائم المستلهم من القران والسنة والعقل لذلك الموضوع.
وفي هذا أعطى الإمام الشيرازي (قدس سره) أهمية كبيرة للأسرة في مؤلفاته حيث شغلت مساحة ليست بالقليلة في منظومته الخالدة، إذ إن الأسرة لابد أن تكون مستحكمة ومتآلفة وواعية وتستوعب المكانة التي تحتلها كي تستطيع من صناعة المجتمع السليم والمستقيم وبالتالي إنجاب المبدعين والمنتجين والعظماء أولا.
العلاقة بين الزوجين:
تشكل العلاقة الزوجية مركز المحور في بناء الأسرة، ونوعية العلاقة القائمة هي التي تحدد مدى نسبة النقاء الحاكم على المحيط الأسري ومدى استحكامه، وهي التي ترسم الخطوط الرئيسية للحياة المشتركة، والإطار الذي يضم أفراد الأسرة.
لذا يرجع الإمام الشيرازي (قدس سره) العامل الأساسي والمهم في زيادة هذا النقاء أو انعدامه هو (الالتزام بالدين)(1) لكلا الطرفين من الزوج والزوجة ويستدل على ذلك بقول رسول الله (ص): (من تزوّج امرأة لا يتزوجها إلا لجمالها لم ير فيها ما يحب، ومن تزوجها لمالها لا يتزوجها إلا له، وكّله الله إليه، فعليكم بذات الدين) هذا من طرف الزوجة، وأما من طرف الزوج فعن رسول الله (ص): (إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه).
بالإضافة إلى ما تقدم يضيف أيضا سماحته (قدس سره) هناك عوامل إيجابية تساعد في تقوية هذه العلاقة وتنميتها منها:
1- حسن الأخلاق: من أهم العوامل التي تحبب الإنسان بالطرف الآخر وتجذبه إليه، ويؤكد كثيرا الإمام الشيرازي (قدس سره) في أماكن مختلفة ومتعددة على هذا الجانب بصورة عامة وفي داخل الأسرة بصورة خاصة، عن النبي (ص): (إن أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا، وخياركم خياركم لنسائهم)، (لذا يلزم على الزوجة أن تكون حسنة الخلق مع زوجها، وكذلك العكس أي الزوج مع زوجته.
قال تعالى (وعاشروهن بالمعروف)(2). (ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف)(3))(4).
2- التعاون: إذ انه يعتبر من الأمور التي تساعد على إنجاز الأعمال بصورة سريعة ومشاركة الطرف الآخر في أداء العمل المقام به سواء كان في الأمور المنزلية أو تربية الأولاد أو... وتؤدي هذه المشاركة إلى استقرار الراحة النفسية في الفرد، وبث روح مساعدة الآخر ورفع حالة الأنانية من الشخص نفسه لأن الحياة السعيدة مع شريك الحياة هي التي تكون بعيدة عن الأنا والأنانية.
فالجو الحاكم على الأسرة عندما يكون مفعما بروح المساعدة والبعد عن الأنانية يصبح متآلفا ومحبا بعضهم لبعض ومتفانيا، لذا يذكر الإمام الشيرازي (قدس سره) في هذا المجال تلك الرواية المفصلة عن الرسول (ص): (يا علي: ما من رجل يعين امرأته في بيتها إلا كان له بكل شعرة على بدنه عبادة سنة صيام نهارها وقيام ليلها..
يا علي: ساعة في خدمة العيال خير من عبادة ألف سنة، وألف حج، وألف عمرة، وخير من عتق ألف رقبة، وألف غزوة، وألف عيادة مريض...)، ومن الطرف الثاني يذكر (قدس سره) عن الإمام الصادق (ع): (أيما امرأة خدمت زوجها سبعة أيام، أغلق الله عنها سبعة أبواب النار، وفتح لها ثمانية أبواب الجنة تدخل من أيها شاءت. ومامن امرأة تسقي زوجها شربة من ماء إلا كان خيرا لها من عبادة سنة)(5).
3- التغاضي والتنازل: إن احتكاك أي شيء بشيء آخر قد يصدر صوتا ما فكيف باثنين من بني البشر؟ ولكي تستمر الحياة لابد من تجنب النزاعات وعدم تضخيم الصدامات الجانبية التي تحدث في حياة كل زوجين وذلك بالتنازل والتغاضي والحوار السليم لكلا الطرفين، ويستدل (قدس سره) في هذا المجال بالحديث المروي عن رسول الله (ص) عند سؤاله عن حق الزوجة على الزوج: يستر عورتها ويشبع بطنها بالأكل ويغفر لها إذا جهلت، فسأل الرجل الرسول (ص): (وكم مرة يغفر؟ قال (ص): في كل يوم سبعين مرة)(6). وعن الإمام الصادق (ع) قال: (خير نسائكم التي إن غضبت أو أغضبت قالت لزوجها يدي في يدك لا أكتحل بغمض حتى ترضى عني).
إن جميع ما تقدم يؤطر في إطار حسن المعاشرة كما عبر عن ذلك سماحته (قدس سره)، كما يضيف: (كذلك يلزم أن لا يتوقع كل واحد من الزوجين عن الآخر مالا يطيقه أو يصعب عليه من الأمور المادية والتهيؤ وما أشبه)(7).
وأما العوامل السلبية التي تسبب كدورة هذا النقاء، والابتعاد عن الصفاء والتآلف المسيطران على الأسرة فهي:
1- تدخل عائلة أحد الزوجين أو كلاهما في الأمور الخاصة بالأسرة، وكذلك الأصدقاء.
2- الاختلافات الدينية والسياسية والاجتماعية والأخلاقية والتربوية، تساعد على إساءة الروابط بين الزوجين، وكذا الاختلاف الكبير بين عمرهما.
3- عدم اعتناء أحد الزوجين بالآخر، واللامبالاة لعمل أو أقرباء الطرف الآخر بالإضافة إلى العلاقة الشديدة بين أحد الزوجين وبين أقربائه حيث تعكس صدى في الحياة الزوجية المشتركة.
4- عدم اعتناء الزوجة بنفسها لزوجها، وبالأخص إذا كانت تعتني بنفسها للضيوف، وعند الخروج من الدار.
5- الاختلاط بين الجنسين، وشرب الخمر، واستعمال المخدرات، وكذلك الثقافة العامة المنحرفة لها الأثر في اسائة محيط الأسرة.
ويرى سماحته (قدس سره) من أجل تحسين الروابط الأسرية، وتفادي هذه السلبيات لابد من تأسيس المؤسسات والجمعيات التي تهتم بهذا المجال وتحوي على فروع كثيرة : منها من تساعد الأسر في توعيتهم وتثقيفهم تجاه واجباتهم الزوجية، وتحسين الروابط الأسرية، وتقريب بين وجهات النظر المختلفة، ومنها لتزويج العزاب، ومنها لعلاج الأمراض النفسية والجسدية و...التي تؤثر سلبا على هذه الروابط.
علاقة الوالدين بالأولاد وكيفية تربيتهم:
إن علاقة الزوجين مع بعضهما ومدى نقاءها لها التأثير المباشر على تربية الأولاد والمحيط الذي يترعرعون فيه، فالبيئة المتزلزلة الذي يكثر فيها الشجار والصخب والتنافر لا يمكنها أن تربي طفلا سليما، إذ انه كالجهاز اللاقط يلتقط ما حوله بدقة ويختزنها في لا وعيه. وكثيرا ما يتأثر الأبناء بما حولهم، لذا فان عمل الإنسان (وبالأخص الوالدين) وفكره وقوله نواة يزرعها فكيف ما زرع أخذ الثمر حيث قال تعالى: (ومثل كلمة طيبة كشجرة طيبة)(8)، (ومثل شجرة خبيثة كشجرة خبيثة)(9)، لذا يؤكد الإمام الشيرازي (قدس سره) على سعادة الزوجين وتأثير هذه السعادة على سعادة الأطفال كي يتربوا أولادا صالحين، يضيف على ذلك أهمية إشراف كلا الوالدين على تربية الأولاد وأن لا يوضع هذا الثقل على أحدهما دون الآخر، إذ إن أي تقصير من أحدهما سيؤدي إلى نتائج سلبية.
فالذي يخضع تحت إشراف الأم فقط ينشأ عاطفيا محضاً، وإما الذي يتربى تحت إشراف الأب فقط ينشأ عقلانيا بحتا، وإما إشراف كليهما على تربيته ستؤدي إلى نموه عاطفيا وعقلانيا و متوازنا.
ويضيف سماحته (قدس سره): إذا كان هذا الإشراف في التربية خارجيا (كالعمة والخالة) فينشأ محروما من العقل والعاطفة ويخرج عنيفا، واما إذا كان على دار الحضانة ونحوها فغالبا ما ينشأ معقدا(10).
من ملامح التربية الجيدة:
إن الطفل عندما ينمو في بيئة جيدة ويتلقى التربية الصحيحة يكون مؤهلا للمستقبل، ومن ملامح هذه التربية هي:
1- الصحة الجسدية: أن يكون سالم الجسم وبعيدا عن الأمراض التي غالبا ما يكون سببها سوء التغذية ومعالجتها إن أصيب بها، وعدم إهماله ووقايته من الأمراض المتوقع إصابته بها إذ إن السلامة الجسمية تنعكس انعكاسا مباشرا على مستقبله الصحي، لذا يذكر سماحته (قدس سره): (إن الإهمال في الجملة بهذا المجال هو بمثابة تحطم مستقبله الصحي).
2- الصحة العقلية والعاطفية: بحيث يمكنه من تقييم الأمور على واقعياتها ومعاييرها الحقيقية وحسب الموازين الطبيعية هذا من ناحية العقل، واما من ناحية العاطفة يجب أن لا يكون جامدا أو سيالا، إذ إن ذلك ليأثر على تعامله مع نفسه ومع الآخرين فيتشدد أو يعطف عطفا متزايدا، وكلا الأمرين يعتبران من الأمراض النفسية والانحرافات الخلقية(11).
3- التربية الدينية: إنها تلعب دورا رائدا في تعيين مسار مستقبله ومدى توجهه للدين ومدى التزامه، ويستدل الامام الشيرازي (قدس سره) بالحديث الوارد عن الإمام الباقر (ع): (إنا نأمر صبياننا بالصلاة إذا كانوا بني خمس سنين فمروا صبيانكم بالصلاة إذا كانوا بني سبع سنين)(12)، وان كان المراد به هنا ليس الوجوب وإنما التعود على إقامتها والالتزام بأوقاتها، وتعلّم أحكامها لتتحول إلى ملكة عنده عندما يكبر. ويضيف (قدس سره): (وعلى الإنسان ومنذ صغره أن يتعلم أحكام الإسلام ويحفظ القران في هذا السن المبكر ما استطاع)(13).
4- تحصين الفكر: وذلك بتغذيته بعلوم أهل البيت (عليهم السلام) ليتحصّن عن الأفكار المسمومة والمنحرفة التي تهاجم المسلمين من هنا وهناك لتستهدف الجيل الجديد بالدرجة الأولى إذ هم الذين يشكلون القوة الحقيقية للمجتمع وللإسلام، ويستدل (قدس سره) على ذلك بالحديث الوارد عن الامام أمير المؤمنين (ع): (علّموا صبيانكم من علمنا ما ينفعهم الله به لا تغلب عليهم المرجئة برأيها)(14).
وعن الإمام الصادق (ع): (بادروا أحداثكم بالحديث قبل أن تسبقكم المرجئة إليهم)(15).
كما يضيف سماحته (قدس سره) على ذلك: إن احترام الطفل وإعطاء الثقة والشخصية علو السمو له ينعكس ذلك على نفسه في الرفعة عن الدنايا. وقد ثبت ذلك في علم النفس إن من طبيعة الإنسان انه لا يريد أن يخيب ثقة الإنسان الذي وضع ثقته فيه، وذلك يحفز على العمل الدائب والارتفاع عن ارتكاب الدنايا.
ونستنتج مما تقدم ما يلي:
1- اهتمام العلماء المعاصرين بالأسرة وطرح مشكلاتها، وإرشادهم إلى المنهج الذي رسمه الإسلام لها لحل مشكلاتها ولأجل إسعادها.
2- إن عناصر قوام الأسرة وثباتها، وبالأخص العلاقة بين الزوجين هي التي تكون مبنية على المعنويات وبعيدة عن الماديات.
3- من أهم الأسس التربوية الحديثة للأولاد هي التي تكون قائمة على الإقناع والحوار كي يتمكنوا من مقاومة الغزو الثقافي الذي يحيط بنا.
4- المسؤولية الكبيرة التي تقع على عاتق المجتمع إزاء الحفاظ على الأسرة وذلك من اجل توجيهها وتوعيتها.
اضافةتعليق
التعليقات