كنت دوما أنتقد أولئك الذين ينهارون من فرط الألم أراها محض تفاهات تلك التي تكسرهم حتى صادفتني إحدى تلك التفاهات وقفت متصلبة وكأن قطعة زجاجية أشعر بها في منتصف حنجرتي تضغط أكثر وأنا أقاوم لأثبت أن ادعائي كان صادقا وهي لحظة وستمر كما مرت قبلها آلاف اللحظات التي استطعت السيطرة عليها.
شددت معصمي بقوة حتى تسرب ذاك الألم إلى عيني لتمطر لأسرع ممسكة السحابة قبل أن تبدأ رعيدها، بات صوتي خافتا رغم إنني أحاول التكلم بصوتٍ عال لكن بلا فائدة هي عدة خطوات خطوتها أتوارى عن أعين الجميع حتى انهار جسدي من الداخل وكأن نافذة زجاجية تحطمت داخله، أجزم أنني سمعت صوت روحي تتحطم فتركت كل تلك الأوتار التي كنت ضاغطة عليها وأطلقت سحابتي لتبدأ رعيدها، ثم أمسكت هاتفي ونظرت من سأكلم ومالت الأصابع إلى المقربين فما وجدت منهم سوى ملامة تتبع أخرى بينما كل ماكنت بحاجة إليه "طبطبة صغيرة ولابأس سيمر عزيزتي".
هنا أدركت أن الإنسان ليس بحاجة إلى أن ينصح في جميع الأوقات، إنما هناك أوقات عليه فقط أن يكون لين القلب بدل من أن يستبدله بقطعة حجر نقش عليها ألم أنبهك، كان بإمكانهم أن يقولوا تلك الكلمات اللينة التي نحن جميعنا بحاجة إليها فما نحن سوى بشر نخطئ أكثر مما نصيب وما اللين سوى حالة من التوازن تجعل من قلب الإنسان رحمة سائرة بين الناس، فأصل التوازن في شخصية المسلم ليجمع الشدة والرحمة، وإن من الحكمة مراعاة كل ظرف بما يناسبه، والتعامل مع كل حالة بما تقتضيه من الأخذ بقوة أو الرفق واللين، فما من داع لأن نتصلب في كل الأوقات مدعين المعرفة المسبقة لوقوع الحادثة وأن نترك النار موقدة حتى يغدو من أمامنا رمادا في الوقت الذي بإمكاننا اخماد النار بلين القول ورقة الفعل.
الشعاع الرابع: القوة واللين
حين تنضب ينابيع العاطفة، فلابد من تطهير القلب من عوامل القسوة، لتنعكس صورة اللين على المعاملة والسلوك، ونعلم جميعنا أن طول الزمن قد يخفف من رقة الشعور، وتطاول الأيام قد ينسي بعض القيم، وتقادم العهد قد يغير المشاعر القلبية، ما لم يتعهد المرء نفسه ويجلو قلبه، فقد ذكر الإمام علي (عليه السلام) في خطبة المتقين عن صفات أهل التقوى: "فَمن علامة أَحدهم أنك ترى لهُ قوة في دينِ، وَحَزْماً فِي لين".
فالأولى القوة في الدين، وذلك أن يقاوم في دينه الوسواس الخناس ولا يدخل فيه خداع الناس، وصفة "الحزم" هنا تعني فحص جوانب الموضوع والتبصر بشكل دقيق وصحيح وأخذ القرار مع دراسة أبعاد الأمر، وصفة "لين" تعني اللطف والمرونة، الأمر الذي يتطلب المودة والتفاعل اللطيف مع الآخرين.
ونعرف من نص العبارة أعلاه أن هاتين الصفتين يجب استخدامهما بطريقة تجعلهما أمرا هادفا ومخططا له أخلاقيا، كما جاء في حديث شريف عن الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله) قال: "الا أخبركم بمن تحرم عليه النار غدا؟ قالوا: بلى يا رسول الله قال: الهين القريب، اللين السهل"، وهو عكس ما تلبست به أغلب صفات مجتمعنا الآن من قساوة القلب التي قد تكون أحيانا نتيجة المعاصي، ومظهراً من مظاهر غضب الله سبحانه وتعالى على العبد، فالانشغال بالهفوات يجفف منابع اللين في القلب، كما ذكر رسول الله (صلى الله عليه وآله): "المؤمن هين لين سمح له خلق حسن، والكافر فظ غليظ له خلق سيء".
ففي المنهج الأخلاقي التربوي مما أراد الله تعالى للإنسان أن يسير عليه في جانب، وأن يبتعد عنه في جانب آخر، هناك عنوانان في علاقة الإنسان بمسؤولياته، وفي علاقته بالناس الآخرين، وهما: الرفق والعنف.
ففي الإسلام الأصل في سلوكية الإنسان هو الرفق، أن يعالج الإنسان كل قضاياه في نفسه وفي علاقاته مع الآخرين بالأسلوب الطيب اللين، في الكلمة وفي العمل، وهذا ما مدح الله تعالى به رسوله (صلى الله عليه وآله)، حيث قال تعالى: {فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك} (آل عمران:159)، ومن هنا، فإن الله تعالى يوحي إلينا أن النبي (صلى الله عليه وآله) استطاع من خلال أسلوبه أن يجذب الناس إليه، وأن يجعلهم يؤمنون برسالته ويلتفون حوله، فإن الرفق عندما تستخدمه في علاقتك أو معاملتك مع الآخرين، فإنه يحسن الموقف، فإذا حاولت أن تحل المشكلة بالأسلوب اللين، فإن الله يعطيك من الأجر على حل الأمور بهذا الأسلوب اللين أكثر مما يعطيك على حلك إياها بالأسلوب العنيف، ففي الحديث عن الإمام الباقر(عليه السلام) يقول: "من قُسم له الرفق قُسم له الإيمان"، ثم يقول: "إن لكل شيء قفلاً وقفل الإيمان الرفق".
باعتبار أن الإنسان الذي لا يرفق، فإنه يستبدل ذلك بالعنف، وإذا أخذ بأسلوب العنف، فقد يحمله ذلك إلى أن ينطلق بالغضب، سواء بالقول أو بالفعل، وربما يقوده هذا الغضب الذي يفقد الإنسان فيه توازنه وعقله، إلى أن يُخرج الإيمان من قلبه، فالرفق يغلق أسلوب العنف من أجل حفظ الإيمان، لذلك نحن جميعا بحاجة إلى تدريب قلوبنا وتطهيرها لنكون أكثر لينا وأرق فعلا فما من قسوة إلا تلد أخرى مثلها وتنشئ مجتمعا لا يعرف سوى اللون الأسود .
اضافةتعليق
التعليقات