_ كم هو مؤلم أن لا أكون؟! أنا!! من أنا؟! كنت حيّزا من مكان لم يلحظه ولم يعبأ أحد بوجوده، كنت نكرة في عالم الموجودات، عَدَم محض.. جدران مهترئة لا سقف يعلو ساحتي، تضربني الشمس بسياط لهيبها الحامي، فأغدو كمرجل يفور فيحرق أقدام من يطأ ترابي..
آه ثم آه وكيف أنسى ذلك اليوم الذي نزل ثقل النبوة بعرصتي، وأنا بهذا القفر والتداعي الموحش؟!
ربّاه ليتني لم أكن هكذا.. ليت لي سقفا تحتمي الهاشميات والأيتام تحت ظله، ليت لي جدران قائمة يتكىء عليه المتعبون من سير طويل، ليتني.. ليتني..
ما ذنبي أنا يا الهي؟ إنه الظالم وليس سواه من بنى قصره المنيف بجواري وتركني عرصة خاوية على عروشها.. ولم يكتفِ بذلك بل زادني هما إلى همي، إذ أنزل بي أناسا من ذراري النبي، وأشاع نبأهم في الآفاق أنهم خوارج!!
فما ذنبي أنا اذن؟ احتويتهم وألفتهم وشممتُ أريج زهر النبوة في عَرفهم وفي أرديتهم ، وامتزجت دموع مُقلهم بذرّات ترابي وسمعت شكواهم وأنينهم وبكاءهم وصراخ أيتامهم... والذي زاد من تصدّع جدراني واهترائها صراخ يتيمة صغيرة يقال لها رقية ، تطلب والدها فتلحّ في الطلب لكن دون جدوى..
حتى كانت تلك الليلة المشؤومة .. حين استفاق صاحب القصر المنيف على صراخ هذه اليتيمة ، فلبّى لها الطلب دون اكتراث وبتلك القسوة والوحشية واللانسانية قدّم رأس والدها في طشت ، فحسبته طعاما وكشفت الغطاء ، وإذا بها تُفاجأ بالرأس الشريف.. تخاطبه فيتصدّع الجبل الأشم من كلماتها :
أبتاه من الذي خضّبك بدمائك؟
أبتاه من الذي قطع وريدك؟
أبتاه من الذي أيتمني على صغر سني؟
أبتاه من بقي بعدك نرجوه؟
أبتاه من لليتيمة حتى تكبر؟
ابتاه من الذي ضيعني بعدك ؟
ابتاه من للعيون الباكيات ؟
ابتاه من للضائعات الغريبات ؟
أبه .. يا أبه .. ثم تلتحق به وتعرج روحها نحو السماء.
فما ذنبي أنا؟ هل ذنبي أنني شهدتُ أول جريمة قتل في أرجائي؟ .. لا تقولوا أنه قضاء وقَدَر، بل هي جريمة قتل نكراء بدم بارد، نفّذها صاحب القصر المنيف دون أن يرفّ له جفن.. فأي صخرة جلمود تضمه أضلاع ذاك اللعين؟! ما أشأم قدَرَه وما أحطّ قدْره وما أسوء منبته وعاقبته؟!
كل ذنبي أنني خربة في بلاد الشام ، بجوار قصر هذا الطاغية..
فليتني ما كنت ولا أكون.
٠٠٠٠
_ واليوم؟!
أيتها العرصة المسكونة بالوجع والأنين .. الغارقة بالندم.. المثكولة بالفقد والاسترجاع، لا زلتِ تبثين شكواك لربّكِ وتقولين: ليتني؟!
_ لا.. أبدا، أنا اليوم في أبهى حالاتي، بعد أن كنت خربة مُهملة لا يعبأ بي أحد، أصبحت جنة سامقة تضم بين حناياها جسد يتيمة الحسين عليه السلام.. يرتادني المحبّون من كل أصقاع العالم... وبين جنباتي تصدح أصوات المبتهلين إلى الله ، فهنيئا لي بها إذ غدوت محلا للراغبين بفتح حساب جارٍ في بنك المودة لأهل البيت عليهم السلام.. يدّخره إلى يوم الجزاء... يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
اضافةتعليق
التعليقات