قلّبَ جسده يمنةً ويُسرةً ولعدّة مرّات، أبعد الغِطاء الّذي كان يعصِب بهِ عينَيه بِلا جدوى بعد أن فشل بإرغام جفنَيه -المفتوحَين بنِصف إغفاءةٍ- على الإطباقِ ومحاولة النوم، دوّامةٌ ضخِمةٌ من التساؤلات تكاد تلتهم عقله، وكأنّ اسطوانةً مشروخةً في ذهنه مافتِأت تُكرّر جُملة صديقه مهديّ حين سأله عمّا إذا كان مسؤول بعثتهم الأثريّة قد ترك شخصًا موثوقًا يقود البِعثة بعد أن أقعده المرض، كان قد أجابه بِذكاء "أتخشى أن نضِل الدّرب إن لم يترُك لنا الدّليل هاديًا يدُلّنا بعده يا محّمد؟!"
استسلَم للأرَقِ بعد أن تذكّر الكُتيّب الألكتروني الّذي أهداه إيّاه مهدي قبل أيّام؛ فقام ليغسِل وجهه ثم عاد وتناول هاتِفه واطلقَ لنفسهِ عَنان القِراءة:
كنتُ حينها ابن العشرينَ سنة، أسير برفقةَ والدي الزَّمِن العجوز، لم يكُن له ولدٌ غيري ولم يكُن لي أحدٌ غيره، قدِمنا من الكوفة على جملٍ، كان نشيطًا قويًّا في البداية، لكنّه هزل وتعِب وأصبح ضامرًا لايقوى على المسير، لكنّي شعرت بالسّعادة عندما سمعتُ أحد الصحابة يتلو "وأذِّن فِي النّاسِ بالحَجّ يأتُوكَ رِجالًا وعلىٰ كُلِّ ضامِرٍ يَأتينَ مِن كُلِّ فَجِّ عَمِيق (٢٧)".
لكنّ فرحتي العارِمة بدأت بعدما علمتُ أنّ النبي محمّداً سيحجّ معنا هذا العام!
لكَم وددتُ أن ألتقيه، عشيرَتي كُلّها مُسلمة ومؤمنة به، لا أدري كيف سيفعلون عندما أعود وأخبرهم أني حجَجتُ برفقته، حرارةُ شوق رؤيته أنسَتنا حرارة مكّة الدّامِغة التي تُحرّق الأفئدة وتلفحُ الوجوه برياحِها السّموم، كنّا مئةَ ألف حاجّ أو نزيد تشرّفنا ببركة مشاركة خاتَم الرُّسُل الحبيب إيّانا مناسِكَنا.
كان يوم الخَميس وقد مضت ثمانيةُ أيّامٍ على عيد الأضحىٰ من السنة العاشِرة للهِجرة، وكنتُ أُجهّز راحِلتنا لنُيمم شطر الكوفة، دمعت عيناي وأنا أُمسك زمام الرّاحلة التي يركبُها أبي وأسير؛ فقد استلبَ حبّ بيت الله قلبي، وتعلّقتُ بالنّاس هُنا، أراهُم من بعيد يتحلّقونَ حول النبيّ ويلوذون به كقلعةٍ مَنيعةٍ، أبو ذر والشّيخ سلمان المحمّدي الذي كان بعُمر والدي أو أكبر، أما عليّ ابن عمّ النبيّ فقد كان لوحده قصّة أخرى في قَلبي!
ويبدو أنّني قطعت مسافةً كبيرةً تحت وطئة التفكير والحسّرة دون أن أعي ذلك ودون أن أنتبه لأبي الذي وضع عباءته على رأسه يتّقي حرّ الشّمس، فقد وصلنا عند الّزوالِ إلى أرض الجحفة وبانَت من بعيد أرضُ غدير خُم القاحِلة، كانت البُقعة مُلتهِبة يملأُها السّراب الذي يحسبهُ الضمآن ماءً.
كانت المنطقة تقع على مُفترَق طُرُقٍ أربع، إلى المدينة شمالًا والكوفة شرقًا ومصر غربًا وجنوبًا إلى اليَمَن.
أردتُ أن أوَلّي شطر الكوفة فلاحَت لي من بعيد حشودٌ غفيرة قد توقفت في الطّريق وعلى صوتُ مؤذّن النبيّ يدعو النّاس للصّلاة والنّاس يبلّغ أولهم آخرهم للتوقف واللّحاق بهم، سمع والدي النّداء فأمرني أن أسرع؛ فحثثتُ الخطوَ لألحقَ بهم.
صلّينا الظُّهر جماعةً خلف رسول الله، كانت أروىٰ صلاةٍ في حياتي، شعرتُ خِلالها أن قلبي أدركَ السّماء، وأن جماعتنا محفوفةٌ بالملائِكة.
كانت الشّمس عموديّةً تصبّ جام قيظِها على الأرض وتدمغُ الروؤسَ بشراهة، الصحراء لاهبة مُحرقة خالية من أي خضرةٍ أو نبعٍ أو شجرةٍ يُستظلّ بها، تدجّجها الأشواك والقتاد يفترش أرضها، انتهت الصّلاة وهرع الحجيج إلى نصب خيمٍ يحملونها معهم ليحتمون بها، أمّا أبي فقد فرش قسمًا من عبائته تحت قدميه يتّقي بها حرّ الحصى التي تكوي بواطن الأقدام، واعتجرَ عمامته على رأسه تحجز عنه الشمس وكذلك فعل أغلب الحاضرين.
وقد نشر بعضهم رِداءه على شُجيرةٍ عاريةٍ جافّةٍ، ليستظل بها رسول الله، إلّا أن الرّياح لم تدعها وشأنها وكانت تعبثُ بها لتنفذ إلى ماتحتها.
كانت بعض القوافل بعيدة بعض الشيء عن النبيّ بحيث لم يكونوا يستطيعون رؤيته بشكل جيّد وقد زادت حرقة العيون التي نشبت فيها أظافر الحرّ الأمر صعوبةً.
تناقل النّاس أن النبيّ يريد منّا الاستماع لأمرٍ هام، وسيُنصَب له منبرًا من أحداج الإبل ليرتقيه فيسمعه ويراه كُلّ الحاضرين، فصدح صوت الحَبيب:
"الحمدُ للّهِ ونستعينَهُ ونؤمنُ به ونتوكّلُ عليه، ونعوذُ بهِ من شرور أنفُسَنا وسيّئاتِ أعمالِنا، الّذي لاهاديَ لمَن ضلّ، ولامُضِلّ لمَن هدىٰ، وأشهدُ أنّ لاإله إلّا الله وأشهدُ أنّ محمّدًا عبدهُ ورسولُه..
أمّا بعدُ، أيُّها النّاس قد نبّأني الّلطيفُ الخَبير أنّه لم يعمّر نبيّ إلّا مثل نِصف عُمر الّذي قبله، وإنّي أوشِكُ أن أُدعىٰ فأُجيب، وإنّي مسؤولٌ وإنّكُم مسؤولون، فماذا أنتُم قائِلون؟
قُلنا: نشهد أنّك بلّغت ونصحت وجهدت فجزاك اللهُ خيرًا.
أمّا أنا فقد خامرَني شعورٌ أن النبيّ (صلّى الله عليه وآله) يُمهّد لإخبارنا بنبأٍ ما، وماهذهِ إلّا البداية، فأرهفتُ سمعي وتناسَيت الحرّ واصغيتُ بكُلّ جوارحي
قال: ألستُم تشهدون أنّ لا إله إلّا الله وأنّ محمّدًا عبده ورسوله، وأنّ جنّتهُ حقٌ وناره حقّ، وأنّ الموتَ حقّ، وأنّ السّاعة آتيةٌ لاريبَ فيها وأنّ الله يبعث مَن في القُبور؟
قُلنا: بلى، نشهدُ بذلك.
قال: اللّهم اشهد، ثم قال: أيّها النّاس ألا تسمعون؟ قلنا: نعم
سَكَت الرّسول؛ فسقط الجميعُ في هوّة الصّمت السّحيق، وأصبحنا لا نسمع إلا صوت صَفير الرّياح..
ثمّ قال: فانظروا كيف تُخلّفوني في الثَقلين..
فنادى مُنادٍ: وماالثّقلان يا رسول الله؟
قال: الثّقل الأكبر كتاب الله طرفٌ بيد الله عزّوَجل وطرفٌ بأيديكُم فتمسّكوا به لاتضِلّوا، والثّقل الأصغر عِترَتي، وأنّ اللطيف الخبير نبّأني أنّهما لَن يفترِقا حتّى يرِدا عليّ الحوض، فسألت ذلك لهما ربّي، فلاتُقدّموهما فتهلَكوا، ولاتقصّروا عنهما فتهلَكوا.
كنت أُسددّ نظري نحو عليّ ذو الوجه الأسمر الطّافِح بالبِشر، لكأنّه يتسربَلُ بالوِقار، هذا الشّاب ذو الحُسن والمَلاحة أخذ عَلَيّ لُبّي، كنت قد سمعت الكثير عنه، أليس هو قالع باب خَيبر والمُفتدي رسول الله بنفسه؟
وأنا في غمرة البكاء واختلاجات مشاعري، رأيتُ رسول الله وقد أخذ بيد عليّ ورفَعها حتّى رأينا بَياض إبطَيهما وعرفه -أي علي- جميع القوم!
ثم قال: أيها الناس مَن أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قلنا: الله وسوله أعلم
قال: إنّ اللهَ مولاي، وأنا مولىٰ المؤمنين وأولىٰ بهم من أنفسهم، ومَن كُنت مولاه فعلّيٌ مولاه!
حتّى كرّرها ثلاثًا!
ثُمّ قال: اللّهم والِ مَن والاه، وعادِ مَن عاداه، وأحِبّ مَن أحبّه، وأبغِض مَن أبغضَه، وانصُر مَن نصرَه، واخذل مَن خذلَه وأدِر الحَقّ معه حيثُ دار، ألا فليُبلّغ الشّاهِد الغائِب!
ثم تلا هذه الآية الّتي هبط بها الأمين جَبرئيل في تلك السّاعة {اليَوْمَ أكمَلتُ لَكُم دينَكُم وأتمَمْتُ علَيْكُم نِعْمَتي وَرَضيْتُ لَكُم الإِسلامَ دِينًا...}.
فقال (صلواتُ اللهِ وسلامُهُ عليه وآلِه): الله أكبر على إكمال الدّين وإتمامِ النِّعمة، ورِضىٰ الرّب برِسالَتي والوِلاية لعليٍّ من بعدي.
ماجَ القوم بين مسرورٍ فرحان مُستبشِر، وحاسِدٍ مُبغضٍ حَنِق حتّى أحسست أنّ نفرًا منهم لو اطّلعت على طويّتهِ لرأيت لهيب الحقد في صدره قد تفوّق على قيظ الشّمس!
أمّا أنا فقد بقيتُ سادِرًا أفترش الأرض، كان قلبي يضرِب بقوّة، فقد أحسست ببرد حُب عليّ بل اعتلَقت مُضغةُ قلبي بمحبّته، لكأنّي أعرف عليًّا مُنذ زمن!
كنت أرى عينَي رسول الله وهما تشعّان بالسّلام، بدا وكأنّه أكمل أداء مهمّة عظيمة، وإئتمن عليًّا على ماأنجزه وخلّفه، كأنّي في ذلك اليوم رأيتُ موسى يخلّفُ أخيه هارون في قومه ويذهب للمُناجاة ولكن هل سيُعيد الدّهر نفسه؟!
هل يوجد بين القوم سامريّ؟!
وبينا أنا كذلك رأيت القوم يتوافدون نحو عليّ يُغدِقون عليه بكلماتِ التهنِئة والتبريك، وكان مما سمِعت " بخٍّ بخٍّ لكَ يا بن أبي طالِب أصبحت وأمسيت مولايَ ومولى كل مؤمنٍ ومؤمنة"!
ومن يومها وجدتُ أنّ حبّ عليّ وولايته أمرٌ تكويني، وهو علامةُ سلامة القلب، لذا كلّما وجدت قلبي قد اتّسخ بغُبار الغفلةِ تفقّدت موضع عليّ فيه، وماوقفت بين واديَين قط إلا وسَلَكتُ الّذي قد سَلَك عليّ.
أغلقَ محمّد هاتفه مع آخر دمعةٍ ذرفتها مُقلتاه، كان قد استغرقَ خمسُ دقائق فقط كما هو العنوان! وأمضى ليلتهُ تلك يتناول الآيةَ تلو الآية والرّوايةَ تلوَ الرّواية، ومعَ انفلاق عمود الفجر، تمتَم مع صوت المؤذّن بـ "أشهدُ أنّ عليًّا أمير المؤمنين وليُّ الله"، وأغلق
اضافةتعليق
التعليقات