على مائدة الطعام كنا نتناول " الباقلا بالدّهن" ليست فاخرة لدي كثيرا و لكنها ممتعة بالنسبة لي ولاخوتي، ابي يلاطفنا كعادته وامي تسكب المزيد لمن ينهي طبقه اولاً، بينما كنا نستمتع بهذه الاجواء الحانية بسلام، قُصفنا بلحظة عابرة.. لحظة لا اعلم كيف حلّت بنا وكيف مرّت، كانت الملعقة بيدي وصحني ممتلئ امامي ولم انتبه الا و السقف يسقط مخيماً علينا دون رحمة..
حينما اتت فرقة الانقاذ لإسعافنا اخرجتني من ركام سقفنا بسلام ولكنها لم تخرج معي الملعقة، لأنها بقيت مع يدي المبتورة تحت الانقاض، وحين وعيت من صدمة المشهد علمت حينها بأن ابويَّ واخوتي اكملوا عشاءهم عند الله اما انا اصبحت اليتمية، تلك هي قصة فاطمة هنا..
و انتِ يا هدى ما هي قصتك؟!
كنا نتبضع انا وامي في "سوق الخضرة" في بغداد، تسير امي بسعادة معي لأنها تحاول بأن تعتمد علي في شراء حاجاتها و لأكون يدها الثالثة التي تعينها على الحياة، إشترينا جميع ما نحتاج لعشاء تلك الليلة التي نوينا بأن ندعو بها خالتي لمياء واطفالها، و حين عودتنا انفجرت تلك السيارة المفخخه بقوة، تطايرت اوصال البشر من حولها واختلطت الدماء بالأرض بوفرة و لكن لا اعلم كيف وصلت نيرانها بأمي واشتعلت بها دون ان تصل لي، تهاوت حبيبتي على الارض ككيسٍ فارغ، ذبلت واستشهدت وذبلت معها ايامي التي اوصلتني وحيدة الى هنا..
و انتِ يا زينب؟!
قُتل ابي في حشد المقاومة في السنة الماضية ولم تستطع امي بأن تتحمل مسؤليتي انا واخوتي الثلاث لوحدها.. مما اضطرت لأن تتزوج بمن يعينها على تربيتنا، ولكن المؤسف هو بأن زوج امي لم يكن انساناً سوياً لكي يحسب نفسه اباً حنون على طفلة بسن الثانية عشر، لا بل كان يرمقني دائماً بنظرته المخيفة الشاذة مما جلب خوف والدتي علي و اودعتني هنا بأمان دار الايتام.. تحججت بذلك على انني سأمتلك اخوات كثيرات في الحين الذي هي لم تستطع بأن تنجب لي اخت تؤازرني في اكمال مسيرة الحياة !! يا لسخرية القدر..
صمتنا قليلاً كصمت شواهد القبور بعد سماع حكاياتنا المؤسفة، القيتُ بنفسي مثل بطانية ناعمة عليهن لأدفّئ صقيع ارواحهن الحائرة و غدونا ننظر تارة لأعيننا البائسة و تارة لضوء القمر الصارخ، ذاك الذي لا يكترث لحزن احد و لا لفرحة احد بل يظهر بارزاً في كل منتصف للشهور على طي السنين، ليستمتع ببهاءه و شعاعه و كأنه يخبرنا بأن الحياة لا تستحق الحزن و إن حدث ذلك و غُيّبت الفرحة تحت الظلام، لا بأس ستظهر مشعة مرة اخرى..
فها نحن يتامى الآن دون ولي امر، دون مأوى وسكن ولكننا تحت ظل هذا الدار الرحيم نأكل وننام بسلام و رزقنا بصحبة تحن علينا اكثر من اخوتنا الحقيقيين.. ولكننا لا نعلم بأي لحظة سيحين دورنا للإلتحاق بركب الشهداء، فبلادنا اصبحت غادرة تقصفنا بلحظات الحنان و تفخخ وسيلاتها لتفجرنا بساعات الفرح، اي حرباً غادرة تلك، ليت حروبنا كانت في الميدان وجهاً لوجه، ينتصر احدهم و يخسر الآخر وتستقر الاوضاع، لكنها غادرة منافقة تلقلق السلام على لسانها وشفتها و تجسد عكسه بكل شيئ!!
اعلم تماماً بأن الكثيرات في العراق كيتمي انا وهدى وزينب و غدير و سحر و.....
اعلم ايضاً بأنهن ربما لا يملكن اي مأوى واي وسيلة للإستقرار سوى التشتت والضياع، ولكن اين التقاة من ذلك؟! اين الراغب بالمكوث بجانب النبي في جنان الرحمن كما وعدهم بأن كافل اليتيم يجاوره في الجنة..
قليل ما نرى تجسيد هذا المعنى وهذا الاجر الوفير.. فماذا لو تبنت الاسر الثرية الاطفال اليتامى لكي تعينهم على التئام جروحهم الجسدية والنفسية و ماذا لو ازدادت الصدقات و العطاءات من الاخيار حتى تستطيع دور الايتام بأن تكمل مسيرة عطائها دون تراجع..
نحتاج بأن نفكر بغيرنا في مسيرة الحياة فربما نُبتلى في يوما ما بنفس بلائهم!!
نحتاج بأن نفكر بيتيمات العراق اللاتي يتزايد عددهن مع كل قصف مع كل انفجار مع كل شهيدٍ حشدي..
من ليتمهنّ يا ترى؟!
اضافةتعليق
التعليقات