هي رفيقة درب في رحلة الإيمان والصبر والعذاب، وهي ذلك المعنى الذي يُهوِّن علينا مصائبنا حين نذكرها، فنقول: "وا صبر زينب!" بل هي الخاتمة التي تُنقش بها ملحمة البقاء؛ حيث كانت يدها على كل جرحٍ في جسد الطفلة الساقطة من ضعف بدنها، من كربلاء إلى الشام.
كانت في كل دمعةٍ ذرفتها الأمهات على أطفالهن، هي سيدة كربلاء، وخِدرها لم يكن للبكاء، بل كانت ترمّم الروح قبل الجسد. تُعلّمنا أن الوحشة ليست ضعفًا، بل إزميلًا ينحت به الله عظمة الصبر في ليالي الأسر.
فلم تكن السيدة زينب (عليها السلام) تُجبر كسور آل بيتها بالضمادات فحسب، بل بكلماتٍ نُزِّلت من السماء، فهي تعلم أن العظام قد تلتئم، لكن القلوب إذا تحطّمت ستظل تُشكّل تاريخًا من الانكسار.
ولهذا، لم تسمح للجراح أن تتحول إلى إعاقة نفسية، بل صيرتها منابر للوعي، وهي تسير بينهم كالطبيب الذي يخيط الجروح بخيطٍ من نور، فلا تندمل إلا وتترك وراءها درسًا في القوة.
فحين سقطت الطفلة في المشهد السابق، لم تكن الأم تبكي على الدم الذي سال من ركبتيها، بل على الخوف الذي قد يبقى في عينيها. وهذا ما فعلته زينب (عليها السلام) في كربلاء وبعدها: لم تمنع الأطفال من رؤية الموت، لكنها منعت الموت من أن يسرق منهم إيمانهم بالحياة.
الحوار بين البضعة والظالم
في مشهد الرؤوس المرفوعة أمام الرؤوس المنكَّسة، طغى سلطان الوالي، وأراد أن يكشف - وَهمًا - ضعف آل الحسين، فكشفت له عن عورة سلطانه: "ما رأيتُ إلا جميلاً".
هنا أرسلت لنا سيدة كربلاء رسالة أن الثورة لا تُقاس بكمّ الدماء، وأيّ دماء طاهرة تلك التي سالت! بل روت أرض كربلاء. وإنما تُقاس بكمّ المعاني التي تتركها في القلوب.
لذلك رأت جميلاً، فهي قد رأت يد الله في كل شيء، وكانت مدركة أن العين الإيمانية ترى الجلال حتى في القتل. لذلك لم تستخدم لغة الضحية، بل لغة الجمال الثوري.
حين وقفت في مجلس يزيد، لم تُذكّره بجرائمه، بل ذكّرته بعظمة أخيها، وحوّلت المنبر إلى محكمة، وجعلت الطاغية يشعر بأنه أسير في قفص الاتهام، كاشفةً زيف السلطة المستبدة بخطابها الذي هزّ عروش الظالمين.
فلم تكن زينب (عليها السلام) مجرد شاهدة على كربلاء، بل كانت قلم الله الذي كتب به تفاصيل الثورة، وأُذن السماء التي سمع بها العالم صوت الحسين (عليه السلام).
لكن، كيف يمكن لنا أن نقرأ دورها بطريقة جديدة، بعيدًا عن السرد التقليدي؟
بكل افتخار، نذكر سيدتنا، حيث إنها لم تقف في مجلس يزيد لترثي، بل وقفت لتُدين. ولم يكن كلامها مجرد ردّ فعل، بل كان فعلاً ثوريًا حوّل الهزيمة الظاهرية إلى انتصارٍ معنويٍّ ساحق.
بكل كلمة نطقت بها، كانت تسحب البساط من تحت أقدام الجلّاد، وتُثبت أن السلطة الحقيقية ليست في السيف، بل في الكلمة التي تهزّ عرش الظالم.
فجملة "ما رأيتُ إلا جميلاً" لم تكن استسلامًا، بل كانت القنبلة التي فجّرت ضعف الطغاة، وحوّلت المنبر إلى مرآة يُرى فيها وجه يزيد المشوَّه بالجبن، بينما يلمع وجه الحسين (عليه السلام) بجلال الشهادة.
كيف نقرأ السيدة زينب (عليها السلام) اليوم؟
نقرأها بكل حبّ، من خلال كلماتها، فندرك كمّ الصبر الذي أتى من عمق ارتباطها وإيمانها بالله عزّ وجل، حين نطقت في مقام الطاغي:
"مهلًا مهلًا، لا تطش جهلًا! أنسيتَ قول الله: (ولا يحسبن الذين كفروا أنما نُملي لهم خيرٌ لأنفسهم إنما نُملي لهم ليزدادوا إثمًا ولهم عذاب مهين)."
هذه الكلمات لم تكن مجرد زجرٍ عابر، بل كانت صاعقةً أحرقت غرور القوة الزائفة.
فحين نطقت بها السيدة زينب (عليها السلام) في وجه الطغاة، لم تكن تخاطب آذانًا صمّاء فحسب، بل كانت تُحدث شقًا في جدار التاريخ، لتُدخل منه نور الحقيقة إلى كل عصرٍ يأتي، ومنه عصرنا هذا، حيث ندرك من خلال إيمانها وكلماتها، أنها ليست شخصية تاريخية نسترجعها في المحن، بل مدرسة متنقلة في قلب الأمة.
فقد أبرزت تلك الشجاعة، ولم تكتفِ ببيان ضعف الدولة آنذاك، بل توجّهت بالتوبيخ إلى يزيد، قائلةً له:
"فوالله ما فريتَ إلا جلدك، ولا جززتَ إلا لحمك، ولتردنّ على رسول الله بما تحمّلتَ من سفك دماء ذريته، وانتهاك حرمته في عترته ولحمته، حيث يجمع الله شملهم، ويَلُمُّ شعثهم، ويأخذ بحقّهم: (ولا تحسبن الذين قُتلوا في سبيل الله أمواتًا بل أحياء عند ربهم يُرزقون). حسبك بالله حاكمًا، وبمحمدٍ (ص) خصيمًا، وبجبريل ظهيرًا. ولئن جرَت عليّ الدواهي مخاطبتك، إني لأستصغر قدرك، وأستعظم تقريعك، وأستكبر توبيخك. لكن العيون عَبرى، والصدور حَرّى..."
وهنا جاء التنبيه إلى عِظَم المصيبة والفاجعة التي أوقعها يزيد بآل بيت المصطفى. "ألا فالعجب كل العجب لقتل حزب الله النجباء، على يد حزب الشيطان الطلقاء.
ولئن اتخذتنا مغنمًا، لَتَجِدَنّنا وشيكًا مغرمًا، حين لا يكون إلا ما قدمت، (وما ربك بظلامٍ للعبيد)".
كان هذا جزءًا من خطبة السيدة زينب (عليها السلام) البليغة، التي تُعطي صورة عمّا بعد الواقعة، وكيف واجهتها بصبرٍ وقوة.
أما اليوم، ونحن نرى دماء الأبرياء تسيل في كل مكان، نسمع صوت زينب (عليها السلام) يهمس:
"لا تخافوا الظلام، فالشموع التي تنطفئ تُشعل ثوراتٍ لا تُطفأ."
هكذا رأيتها أنا، بكلماتها: منارة من الصبر والحكمة.
فكيف ستراها أنت في ساحة الثورة والحرب، قبل العزاء وبعده؟ هل تراها شاهدةً على الألم؟ أم شعلةً تُضيء درب الثائرين؟ هل تراها امرأةً بكت أخاها؟ أم قاضيةً حكمت على الطغاة بالعار؟
في النهاية، هي كلّنا... هي دمعة الأم الثكلى، وصيحة الشاب الثائر، وإصرار الطفل الذي يرفض أن يموت حلمه. هي كربلاء التي لا تنتهي.
اضافةتعليق
التعليقات