يمر المجتمع الإنساني بحالة من السيولة الفكرية، هناك نهج جديد يومياً، فكرة جديدة، وتعبير جديد، ويتمظهر ذلك في القضايا المرتبطة بالعلاقات الشاذة والإجهاض والمتحولين وغيرها.
يرفض المجتمع الإنساني المعاصر كل أشكال المرجعيات الثابتة مثل الدين والقانون والعلوم والأعراف، وتتظافر جهود اليسار المتطرف في العالم لاقناع الجماهير بالتعديل على هذه المرجعيات أو رفضها تماماً وجعل الأمر نسبي يعتمد على قناعات الفرد ومشاعره الذاتية.
إن رفض المرجعيات لا يجعل من ذلك المرجع ميزاناً ضعيفاً بل يولد مجتمعاً ضعيفاً تسيره الموجات الفكرية أنى شاءت فاقداً للحكمة والبصيرة، فعدم وجود مرجعية يعني أن مرجعية الإنسان هواه وأهواء النفس متقلبة جامحة تصبو للمنفعة الآنية كما الطفل.
ومثلما لا يترك طفل عمره عامين وحيداً دون رقابة لأن فعل ما يحلو له ليس الأصلح له، بل غالباً ما يكون مؤذياً له على نحو خطير كذلك الإنسان بحاجة إلى رقابة تتسم بالثبات وعدم التغير والحكمة والرجاحة والمعرفة أكثر مما يعرف أي بشري خلال مسيرة حياة واحدة، وهذا يجعل اختيار الدين كمرجعية أمر صائب منطقياً، فالإنسان خلال حياة بشرية واحدة لا يستطيع مدى فكره أن يتسع اتساعاً شاملاً كاملاً يشمل كل البشر على اختلاف أعمارهم وشخصياتهم وثقافاتهم بما يمرون به من تجارب ويحصلون عليه من خبرات فريدة على مرور الأزمان وتعاقب الأجيال وما يولده ذلك من تغيرات.
والخلو من العيب شرط أساسي لكي لا يبخس الميزان حق أحد، وكل ما هو غير الدين ناقص لأن النقص سمة رئيسة في الإنسان وكل ما يصدر عنه ناقصاً بالتبعية.
إن القانون الوضعي القابل للتعديل والتغيير وفق آراء أغلبية سائدة في حقبة معينة - التي قد لا تحقق بالضرورة معايير الرجاحة - لأن الجميع يدرك النقص فيه وهذه النقطة هي كعب أخيل التي يستطيع استخدامها من شاء إن كان عالي الصوت قليلاً لتشكيل القانون وفق أهوائه.
يعمل الدين على ضبط ميزان الإنسان الداخلي مما يجعل سلوكه القويم نابعاً عن إيمان بمبادئ سامية تحركه كوحدة واحدة لا تتصارع فيها دواخل الإنسان مع ظاهره، أي يكون في حالة من التناغم والسلام، فهو لا يكون دمية مفروض عليها بعض الأفعال أو تركها بقوة العقوبة الرادعة، وهذا ما يجعل الإلزام بالقانون البشري يحتاج جهداً ومبالغ طائلة لترسيخه.
وعلى نحو غريب بدأ العالم اليوم برفض العلوم بعدما كان يقدسها، فحل بدل الحقيقة العلمية كلما مثل "أحس" و "أشعر"، وعلى أساسها تتغير قوانين وثقافات ومصائر أمم وشعوب، مما يجعله أكثر عصر متقلب غير رصين وغير مبهج للعيش به.
الإنسان العائش بعيداً عن أي مرجعية يستند عليها هو إنسان متعب بحاجة إلى التفكير بكل تفاصيل عيشه للوصول إلى قناعات تخدمه يستطيع وصفها بـ "أخلاقية" ويمكنه تبرير أفعاله بها.
الإنسان الذي لا يؤمن بمرجعية هو إنسان "عدمي" "عبثي" لكنه غير صادق فبينما يرفض "العدمي" "العبثي" الجدوى من الأخلاق والقيم والمثل لأن الحياة عبثية وعديمة القيمة، يحاول ابن اليوم الانطلاق من مفاهيم مزخرفة ذات صبغة أخلاقية تمنح ضميره وفكره شيئاً من الطمأنينة والسمو والفوقية، فكل شيء في عصرنا حتى في أكثر الجوانب الفلسفية منه هو عمل استعراضي المغزى منه نيل استحسان العامة وعلامات الإعجاب وأعداد متابعين بعد إن كان الفيلسوف ينشد الابتعاد عن الناس.
فقدان المرجعية لن يسقط البشرية في متاهات هي في غنى غنها وسط أزمات أكثر أهمية كالمناخ والبيئة والاقتصاد والتعليم والحروب فحسب، بل سيجعلها عمياء في ليل مدلهم لا تهتدي إلى طريق العودة.
اضافةتعليق
التعليقات