-تُرى أين أنا؟!
- ماهذا المكان؟!
-إنهُ مُظلم، لكنهُ آمن!
- أنه مُخيف، لكنه دافىء!
فيأتيك الصوت رقيقاً، عذبا يزيدك طمأنينةً وسكينة، هو أول صوت تسمعه وتشعر به لكيانٍ كلهُ ينادي: لاتقلق ياصغيري أنت بأمان معي، في أحشائي، سأرعاك أكثر من نفسي سأغذيك من دمي وروحي، وتذكر بأنك مُحاطٌ برحمة ربي أكثر مما تحيطك رحمتي، ستبقى هنا في رحْمِي حتى يُبنى جسدك الحبيب بسلام قطعةً قطعة، وخليّةً خلية..
"أسكنتني في ظلماتٍ ثلاث، بين لحمٍ ودمٍ وجلد، لم تشهدني خلقي ولم تجعل إلي شيئاً من أمري".
- لابُد أنّ هذهِ هي أمــي، ما ألطفها وأرأفها، تُرى هل يوجد من هو أرحم منها؟!
هذا الصوت لا بُد أنهُ صوت قلبها، أنه يبعث للأطمئنان..
"لم أزل ظاعناً من صلبٍ إلى رحم"..
تبقى هكذا بين ظلماتك الثلاث في رحلة التسعة أشهر، مستمرٌ في التكوين وأنتَ لاتملك من أمر نفسك شيئاً، حتى إذا أكتملتَ تاماً سويا كاملا، مزقتَ جسدها وروحها لتخرج بسلام، وفي أشد حالاتها أعياءاً وأرهاقا، لم ولن ترتاح حتى يأتيها نبأ هو الأهم والأسعد على قلبها من راحة جسدها:
"أنه بخير وتام الخلقة"..
"ثم أخرجتني للذي سبق لي من الهدى الى الدنيا تاماً سويا، وحفظتني في المهد طفلاً سويا ورزقتني من الغذاء لبناً مريا وعطفت عليّ قلوب الحواضن وكلفتني الأمهات الرواحم، وكلأتني من طوارق الجان وسلمتني من الزيادة والنقصان، فتعاليت يارحيم يا رحمان".
تامُ الخلقة، كل خلاياك، أعضائك، أجهزتك وأطرافك سالمة وتامة، خُلقت بأبهى صورة وأحسن تقويم..
فتتوالى الأيام، ويستمر سير الزمان وأنت تزداد في كل عام، مُحاطاً بأشد أنواع اللطف والعناية الألهية التي تحفظ لك جسدك من حوادث الأزمان..
ثم ما لبثت أن أصبحت على هيئتك هذه، ظناً منك بأنك كبرت كفايةً لتتحكم بكل شيء، وبأنك وحدك مسؤول عن هذا الجسد وعن سلامته، بأنانية تملكك له تظن أن بأمكانك تدمير ما يحلو لك منه بدم بارد وبحجج واهية، وكأنه ليس أمانة عندك ستُسأل عنها يوماً ما..
نعم، جسدك أمانةً عندك، ذلك الجسد الذي بلحظة تأثر منك كأن تكون لحظة حزن، تمرد، أو تحدي تقرر سحق ما يمكنك سحقه فيه، عن طريق سماعك أكثر أنغامك صخباً - أنغاماً هي من الشدة بحيث ترتج معها أوصال الدماغ وليس فقط عصب السمع الذي هو أرق من خيط رفيع حساسٌ للأهتزازات-.
أو تأخذ سيكارة نتنة بين يديك متبختراً للرجولة ومعانيها التي حُصرت بين أصبعيك وتفكيرك الضيق! تسحب من سمومها نفساً، تلك السموم التي ما صنعها البشر بعبثهم إلا لضررك ولنفع جيوبهم..!
مع كل سحبة من سيكارة أو نفس من أرگيلة تقتل ماشاء الله من الخلايا التي ما زُرعت فيك عبثاً، بل لحاجة الجسم لكفاءة عمل كل خلية منها بحكمة وتقدير من لطيفٍ خبير..
تلك الخلايا هي من الرقة ودقة صنع المبدع، خُلقت لتحتمل خفة الهواء بداخلك وتجعلك تُدخل الهواء وتُخرجه بدون اي شعور لضيق ثقلهُ على صدرك..
مع أول نفس يُسحب، يُعلن جسدك حالة التأهب القصوى التي تجعل الدماغ يعطي أيعازات الطوارئ لتفعيل دفاعات جسمك، فتعمل دفاعات ربك َضد عبثك بأقصى ما أوتيت من قوّة،
تخرج هذه القوة عن طريق نوبات سعال شديدة ومتتالية معلنتاً رفض الجسد لما تدخله اليه كُرها..
وتستمر أنت بالرغم من كل ذلك بأدخال المزيد والمزيد حتى يضطر دماغك لرفع شارة الأستسلام لقرارك، ويعطي أيعازاً للرئة بالقنوط والخضوع للأمر الواقع، وترك الدفاع نزولاً عند رغبةِ المالك..
نفَسٌ بعد نفَس، تستسلم خلايا رئتيك لأوامركَ بؤدها وهي لازالت فتيّة ومفعمة بالحياة، ويستسلم جسدك لهذا القرار ويحاول التأقلُم مع واقعهُ الجديد -واقعهُ المريض-.
في لحظة حزنٍ، لحظة ضيق أو توتر، يتخذ الأنسان قراراتٌ قد يكلّفهُ دفع ثمنها طيلة حياتهِ..
الحزن والضيق والهم مهما كانت أسبابه وشدته فهو لايعدو كونه مجرد خاطرة مؤقته يمكن التخلص من الخوض في غمارها، بالتحكم بجزء ضئيل جداً من أدراك الدماغ، عن طريق صرف التفكير عن كل ما يُسيئُك -قدر الأمكان-، وتوجيهه نحو أشياء أيجابية:
(لحظات طلب لجوء تركُن فيها بين يدي جبار السماوات والأرض، أو اللجوء لأشياء تحب ممارستها، أو مهارات تستمتع بمزاولتها)..
كل هذا وغيره كفيلٌ بزوال حزنك وهمك تدريجيا، بنعمة النسيان أو التناسي.. أليس في ذلك فيضٌ من اللطف يستحق السجود شكراً.. أكثر من المقت عبثا.
اضافةتعليق
التعليقات