الذكاء ليس قيمة بسيطة، ذات وجه واحد يرثها البعض دون غيره. إنه مقدرة مركبة ومتنوعة، تتألف من عناصر عدة. يشعر كل الأطفال على حد سواء برغبة في التعلم والاكتشاف. إنه فضول فطري كبير، بل ميل إلى النمو والتقدم، واحساس بالجهد عندما يقصد منه بلوغ الهدف. تلك الميزات يجب أن تُصان وتطوّر، ومن الأفضل أن يتم ذلك في جو ممتع. وهل من شيء يضاهي متعة اللعب معاً؟
لكل ذكاؤه الخاص
ثمة قواسم مشتركة بين كل الأطفال في طور النمو، وهي مرتبطة بالنضوج الجسدي والنفسي. لكن إذا استطعنا أن نجزم أن الطفل سيجلس قبل أن يمشي، فلا أحد يمكنه أن يعلم متى سيحصل هذا أو ذاك. فكل طفل يختلف كثيراً عن الآخر، وما من طفل يشبه طفلك شبهاً تاماً.
تختلف وتيرة اكتساب المعلومات من طفل إلى آخر أيضاً. من الطبيعي جداً أن ينطق بعض الأطفال قبل آخرين. لكن هؤلاء بدورهم قد يتمكنون من العد إلى العشرة في سن أبكر.
عوض التوتر في السيارة أو الملل في الحديقة العامة، يستحسن أن نجد له نشاطاً ترفيهياً ينمّي قدراته أيضاً. تتغير وتيرة الاكتساب ومراحله بشكل كبير. نستطيع أن نميز أنواعاً من الذكاء تختلف باختلاف الأولاد. الأمر المؤكد هو أن ما من طفل يفتقر إلى الذكاء. نذكر على سبيل المثال: الذكاء الخلّاق والذكاء في فهم المجرد، وذكاء التأقلم مع الظروف الاجتماعية، وذكاء البراعة اليدوية، وذكاء القلب، وذكاء الكلمة، وذكاء الأرقام، إلخ... البعض يتمتع بذكاء بصري أو سمعي وآخرون بذكاء في الحركة أو اللمس.
دور البيئة
يلعب عامل الوراثة دوراً كبيراً في الذكاء. وكذلك البيئة التي ينمو فيها الطفل. وتبيّن أن التجارب المتعددة والتنبيهات المتنوعة والبيئة الودودة تساعد بشكل كبير على نمو قدرات كل طفل. لطالما تردد على مسامعنا أن (كل شيء يتقرر) قبل هذه السن أو تلك. في الواقع لا شيء يعتبر نهائياً، لكن السنوات الأولى تلعب دوراً رئيساً في نمو الطفل. لا ينبغي الاستهتار بما يمكن أن نقوم به مع الولد، لنساعده على بناء قواعد راسخة للمستقبل.
ينمو الدماغ بسرعة أكبر كلما كان الولد يافعاً، ويكتمل نموه هذا قبل أن يدخل الولد المدرسة الابتدائية. العمليات الفكرية الكبرى ومركبات الفكر، أي الطريقة التي ينظم فيها الولد معارفه ويستخدم بها ذكاءه، ذلك كله، يكتمل في سن السادسة. لذا يبدو أن نوعية التجارب الأولى وعددها هما أساس تطور الفكر في المستقبل. لا يجب إذن أن ينسى الأهل والمربّون، أن بإمكانهم، عن طريق اللعب، أن يزودوا الطفل بآليات تفكير، وابتكار وتعلُّم. تلك العمليات كلها تنشط الذكاء، وأهميتها بالغة في هذه المرحلة وفي المستقبل أيضاً.
اللعب والتعلم
الطفل ينمو ويتعلم عن طريق اللهو، ولا يميز بين اللعب والتعلم. كما يتعلم أيضاً حين يعمل على الأشياء أو الأفكار التي يريد معرفتها. لهذا السبب يشعر الولد بحاجة ورغبة للحركة الدائمة. ذكاؤه ينمو إذا ما ربط بين حركاته الجسدية والفكرية، وكرّرها مراراً.
يحتل اللعب مكانة أساسية في نمو الطفل. إنه الدليل الأهم على صحته الجسدية والنفسية والفكرية. إنه يَحْبك الروابط المتينة وينمّي الروح المرحة. ويعطيه فرصة ليكتسب عدداً كبيراً من المعلومات وليتمرّن بشكل فعّال.
يتعلم الطفل عن طريق اللعب، التركيز واحترام الآخر.كما يكوّن مخيلة واسعة ويطورها وينظم بنيتها. على الوالدين أن يؤمّنا لولدهما جوّاً ترفيهياً، ويوفرا له فرصة للاختبار، وأن يتفرغا له قدر الامكان.
يمتلك الأولاد كلهم رغبة كبيرة باللعب والتعلم، لكنهم يرغبون أكثر بصحبة البالغين. كل ما يريده الولد هو أن يهتم البالغ لأمره، ويمنحه بعضاً من وقته وعطفه. عندما تلعبون مع الطفل تمنحونه هذا كله. يتقدم الطفل ويتعلم ما دمنا وفرنا له الحافز الدائم.
ويبقى الحافز قوياً إذا كان ما نطلبه منه على مستواه. وإذا لم ننسى في كل مرة، أن نثني على جهوده ونشجعه. معنى ذلك أنه يجب أن نعرض على الطفل نشاطات يستطيع النجاح فيها، ويشعر فيها بالارتياح.
دور جو البيت
في دراسة أجريت على السلوك التربوي الذي اتبعه أهل بعض المتفوقين، الذين لمعوا كل في مجاله، لاحظ المراقبون القواسم المشتركة في التربية. ووجد الباحثون فعلاً بعض الخصائص: ترعرع الأولاد منذ نعومة أظافرهم في محيط غني استطاعت فيه إمكانياتهم أن تنمو، فانطلقوا إلى اكتشاف العالم المحيط بهم. أدرك أهلهم أن أي تعليم لا بد أن يمر عبر اللعب والمتعة، لذلك راحوا يشجعون أولادهم فيظهرون هم أنفسهم فضولاً وتحفزاً. كما تركوا لأولادهم حرية اختيار ما يثير اهتمامهم وأبدوا انفتاحاً كبيراً حيالهم.
وفّر كل ذلك جوّاً عائلياً مفعماً بالإثارة والاحترام والدفء.
عناصر النمو العقلي
العنصر الأول هو النضوج: يولد الطفل مزوداً ببعض الإمكانيات، التي يقال إنها انعكاسية أي غير إرادية، وهي لا تحتاج أي تدريب، ويختفي معظمها مع الوقت كما يولد مزوداً أيضاً ببعض الإمكانيات الكامنة التي تتجلى مع نضوج الجهاز العصبي.
إن تنوع المناسبات التي تُمرّن فيها هذه القدرات هو الذي يحدد إمكانية تنميتها كلياً.
العنصر الثاني هو الاختبار المادي: معنى ذلك أن على الطفل أن يحتك بمحيطه، بالأشياء والأماكن، والأشخاص، إلخ... لكي ينمو فكرياً. عن طريق التعاطي مع كل ذلك، يتعلم الولد أن يحدد موقعه، ويميز بين الاعتيادي والمختلف، ويفهم نتيجة ما يفعله.
ربما كانت قواعد الفكر العلمي والمنطقي تنشأ في هذه المرحلة.
العنصر الثالث هو النقل الثقافي والاجتماعي: إن اكتشاف الطفل لما يحيط به لا يُعلمه كيف يتكلم ويلعب ويغتسل. تلك العادات البسيطة التي تؤلف نظام حياتنا اليومية وتختلف من بلد إلى آخر، بل ومن عائلة إلى أخرى فكل حضارة لها موسيقاها وقيمها وقواعد اللياقة الخاصة بها.
إنه جو متكامل يترعرع فيه الطفل، ولا يمكننا الاستهتار بما يكتسبه منه.
العنصر الرابع والأخير هو الضبط الذاتي: يولد الأطفال وفي داخلهم قوة تقودهم نحو التأقلم الفكري، الذي يتحسن أداؤه بشكل مطّرد، فينتقلون من البسيط إلى المركب.
إنها عملية توازن داخلي، تضبط دائماً معارف الطفل حتى يضيف إليها اختباراته الجديدة.
اضافةتعليق
التعليقات