عندما تخرجت من الجامعة في السبعينات، كان الحصول على عمل أمرا بديهيا وحتميا، وكباقي أبناء جيلي كنت أعتقد أنه بإمكاني أن أقضي سنة أو سنتين بعد التخرج أنمي فيها مداركي ومواهب أخرى موجودة عندي، وعندما يحين الوقت الذي أجده أنا مناسبا، أستطيع أن أنتقي من فرص العمل المعروضة علي، العمل الذي يعجبني.
وهذا ما كان يحصل غالبا، فقد كان الحصول على شهادة جامعية يضمن الحصول على وظيفة محترمة، بغض النظر عما إذا كان مجال العمل يتفق مع طبيعة الشهادة، وغالبا لم يكن، إذ يتمكن الشخص الحائز على شهادة في دراسة اللغات القديمة مثلا أن يتخاطفه أرباب العمل من أجل إدارة مصنع مثلا، فقد كان الإعتقاد السائد أن مجرد الحصول على شهادة جامعية يعني أن حاملها يملك طاقات فكرية تمكنه من النجاح في أي عمل أو أي مجال، المهم أنه يحمل شهادة جامعية.
إلا أن الأمر الآن لم يعد كذلك، ولم تعد الشهادة الجامعية على الرغم من أن الحصول عليها شرط أساسي تضمن لصاحبها الحصول على أي عمل، بل أصبح ينظر إليها على أنها الدرجة الأولى في سلم المؤهلات، والسبب في ذلك الأعداد الكبيرة في حملة الشهادات الجامعية.
لقد ازداد عدد الطلاب المنتسبين إلى الجامعات زيادة كبيرة في العقدين الأخيرين وذلك بسبب التغير الحاصل في طبيعة العمل والحاجة المتزايدة إلى العمل الفكري.
وكان واحد من كل عشرين شخصا ينتسب إلى الجامعة في بريطانيا، في فترة الخمسينات والستينات، أما الآن فقد أصبحت النسبة شخصا من كل ثلاثة أشخاص ومن المتوقع أن ترتفع هذه النسبة إلى أكثر من ذلك.
وفجأة وجدنا أن نصف المجتمع قد أصبح من خريجي الجامعات... لماذا؟ ومن أين حصلنا على كل هذه الطاقات الفكرية؟ هل من تحسين القيمة الغذائية للطعام الذي نتناوله؟ هل إن معظم أفراد الشعب على هذه الدرجة من الذكاء أم ماذا؟
في الواقع، إن الطاقات الفكرية موجودة دائما، إلا أن طبيعة العمل والحياة الاقتصادية في السابق لم تستلزم هذا الكم من العمل الفكري، أما الآن وبعد التغيرات الجذرية الحاصلة في جميع نواحي الحياة، وخاصة في النواحي الاقتصادية، وفي طبيعة العمل الذي أصبح عملا فكريا، يعتمد على القدرات العقلية أكثر بكثير من المهارات اليدوية والطاقات البدنية فقد أصبح من الضروري بل ومن الأساسي الحصول على شهادة جامعية من أجل الحصول على عمل بعد التخرج.
ولكن المشكلة الآن هي في العدد الكبير من خريجي الجامعات، إذ تشير الدراسات إلى أن عدد حملة الشهادات الجامعية في بريطانيا قد ازداد بنسبة الضعف خلال العقدين الأخيرين، دون زيادة مماثلة في عدد الوظائف، بل على العكس فقد انخفض عدد الوظائف الشاغرة بنسبة ٣٥٪ في فترى الركود التي عانت منها بريطانيا في التسعينات.
ورغم التحسن الطفيف الذي طرأ على الاقتصاد في نهاية العقد الأخير، إلا أن الفجوة ظلت كبيرة بين العرض والطلب بالنسبة للمؤهلين علميا.
ففي حين كان عدد الوظائف الشاغرة ٢٠٠٠٠ وظيفة، كان يوجد ٢٠٠٠٠٠ شخصا مؤهلا يتنافسون عليها، وهذا ما دفع الكثيرين منهم إلى القبول بوظائف لا تتطلب أي مؤهل علمي أو جامعي وقد وصلت نسبة هؤلاء إلى ٣٠٪ في الثمانينات.
وعلى الرغم من رفع مستويات التعليم بشكل مستمر، إلا أن سوء الإدارة والتخطيط يجعلنا نهدر الكثير من هذه الطاقات الفكرية، بدلا من أن نؤمن لها المجال الذي يمكن أن تثمر وتتطور فيه.
اضافةتعليق
التعليقات