غياب ذلك القمر، كسى السماء لون الدخان، لاتَرى من خلفه أثرا للنجوم، كلها أفلت، ودّعتْ مواقعها، لتراقب تلك الخطوات تسير رويدا على أرضٍ رسمت على ظهرها مأساة وغلفتها لتحجبها عن عين الباغضين.
يقف هناك على حفرة تعلوها علامة لقبر، يحني رأسه، تنساب دموعه، يقفُ صاحب القبر خلفه بكفٍ حانٍ يمسح على رأسه، يلتفت اليه: (عماااه آجرك الله بها) يجلس بجانبه بهدوء يكتم زفراته، يبدأ كلامه: (من أصعب الاجور هو أجر الفقد، والأصعب هو أن تلبس الصبر رداءً وفي داخلك غصة ألم، دموع أختي زينب نيرانها تزيد نيران فؤادي المشتعلة، عزلة أخي الحسين وامتناعه عن الطعام تزيدني همّا فوق همي، أن تكون الأخ الأكبر يجب أن تمتلك كفان: كف تحمل حنان الأم والاخرى تحمل دفئ الأب، تقف تلك الكلمات متناقضة، هي نفسها تصبر غيرها ولاتستطيع أن تكون مرهم لصاحبها، أن تتسلل ليلا لتبكي على فراش أمك_ التي عانقت روحها السماء_ فتجد أحد أخوتك هناك فلا تعلم هل ذلك الفراش ضماد جرحك ام جرحهم.
هل تبكي أنت عليه ام تمسح دمعة لأختك، عشتُ تلك اللحظات أعتنق الصمت، أرافق الألم بصمود، أصبحت الباب مصدر عذاب لنا كلما رأيناها تشب فينا نيران الحرقة، كنتُ أرى أبي يعود ليلا متعبا مثقلا، عيناه متورمتان من شدة البكاء، عندما يرانا يبتسم ابتسامة خالية من الروح، كنتُ أشعر به يقاوم الحزن يقاوم الألم لايريد أن يظهره لنا، يدلي رأسه في البئر يفرغ ذلك الكم الذي لاينفذ من الحزن.
مسح دموعه ثم نظر الى المنتظر: كل تلك النيران أنت تطفئها فعجل يابني، تعددت الثارات وكثر الظلم.
عماه: لقد رأيت ثم رأيت، وقد لاقيت مالاقيت، وإنه ليعز عليّ أن أمي سُطرتْ وعمتي سُبيتْ، وجدي بين حوافر الخيل وكبدك شاهدٌ عليه الليل، لكن عددهم لم يكتمل بعد، إتخذوا من دنياهم لهو، ومن حياتهم لغو، أضاعوا العبادات، واتبعوا الشهوات، اقتربت منهم ابتعدوا عني، أعطيتهم الامان، وأعطوني السهام، دعوت لهم في سرّائهم وضرائهم، ودعوني لكشف ضرهم، كثيرو الاقوال، وقليلو الافعال، قليلهم المُضَحّين وكثيرهم المُعْتَمِدين، نسوا الخمس وعبدوا الفلس، اهملوا الزكا وأخذوا الرشا، إلا القليل ممن وفى، ليت الساعة تقوم لآخذ بثاري).
التفتْ فلم يجد أحدا..
قبّل القبر وعاد يحتضن ميمونه، ينظر الى ذلك الحطب، تهبط دمعة من عينيه تمسحها نظرة لذلك السيف المسمى ذو الفقار.
اضافةتعليق
التعليقات