شرفت الصيف الماضي بتكليف من دار جامعة أكسفورد للنشر العريقة بمراجعة ثقافية لمجموعة من كتب الدراسات الاجتماعية التي تحوي فصولاً في الجغرافيا والتاريخ والمواطنة والهوية والتي تنوي الدار توزيعها على طلاب المدارس الدولية في المرحلتين الابتدائية والإعدادية بالتنسيق مع وزارات التعليم في دول الخليج العربي.
اقتصر دوري كمراجع ثقافي على التعليق على الإطار الثقافي الذي تبناه مؤلفو هذه الكتب ومدى ملاءمته للثقافة العربية، بما في ذلك الدين واللغة والعادات والتقاليد (مثل الزواج والاحتفالات الدينية) والملابس ودقة الأسماء المستخدمة على الخرائط المدرجة في الكتب، لكني قرأت الكتب التسعة سطراً سطراً.
أول ما أثار تعجبي من هذه الكتب هو كمية المعلومات الكبيرة بها مقارنةً بتلك الموجودة في كتب الدراسات الاجتماعية المقررة على طلاب المدارس المصرية في السنوات الدراسية ذاتها، لكن تعجبي هذا زال عندما تفحصت الأسئلة في نهاية كل فصل في كل من الكتب المذكورة، وهي الأسئلة التي تجعل من الكتب الأجنبية مادة مستساغة بل وممتعة على ما فيها من قدر كبير من معلومات، مقارنةً بالأسئلة المدرجة في الكتب المصرية التي تحيل المادة -على ما فيها من قدر ضئيل من معلومات- إلى منجم من التعقيدات يثني طلابنا عن القراءة بل ويؤدي بهم لكراهية تاريخهم العريق.. فما السبب؟
مناهج "تسد النفس"
طالما عبر لي ابني في الصف الرابع الابتدائي (منذ ستة أشهر تقريباً) عن كراهيته لمادة التاريخ. وبسؤاله عن السبب، أفاد بأنه يُضطر لوضع خط تحت كل كلمة ليحفظها كما هي حتى وإن لم يفهمها؛ ما يضع حملاً على ذاكرته، خاصةً أنه مطالب بحفظ أسماء الملوك والملكات الفراعنة وأبنائهم التي تتشابه إلى حد كبير وأسماء الأقاليم التي حكموها وعواصمها وتواريخ الأحداث الكبرى بها، لأن الأسئلة التي تتكرر في الامتحانات لا تسأل الطالب عما أفاده من دراسته لتاريخ مصر القديمة (وهكذا مع كل العصور التاريخية التي يدرسها الطلاب في مراحل تعليمية مختلفة)، ولا ما أعجبه فيه، ولا تربط هذا التاريخ بالحاضر، وإنما هي أسئلة موضوعية تسأل عما بين السطور وتختبر قدرة التلاميذ على الحفظ وليس بينها وبين المنطق أو الإبداع رابط مثل: "ما المقصود بالهرم؟"، و"حدثت معركة قادش في عهد الملك …(نارمر – تحتمس الثاني – أحمس – أخناتون)" و"يُطلق على عصر الدولة الحديثة عصر الرخاء الاقتصادي… صح أم خطأ".
وحتى إن نحت الأسئلة نحو بعض المنطق من خلال السؤال الشهير "بم تفسر" وأجاب الطالب بلغته دون أن يخرج على الإجابة النموذجية، عُدَّ ذلك خطًأ لأن الإجابة تخالف صياغة نموذج الإجابة المعتمد. ولهذه الأسباب، تجد الأمهات حريصات كل الحرص على أن يحفظ أولادهن المقرر بكل ما فيه دون نقص أو تدخل لا بمعلومة ولا تعديل في صياغة كتاب الوزارة حتى "يقفل الواد المادة" وإن لم يفهم أو يقارن أو يحلل أو يكتسب من دروس المقرر درساً في الحياة… المهم "تقفيل المادة". والمشكلة الحقيقية في هذه الطرق المتبعة في مناهج وامتحانات مادة التاريخ هي أن الأطفال ينشأون على كراهية تاريخ بلدهم ولا تتكون لديهم مهارات النقد أو التحليل.
حتى ما يعبئون به أدمغتهم طوال الفصل الدراسي يطير مثل "السبيرتو" فور خروجهم من الامتحان، وربما مع بعض الشتائم في المقرر ومن وضعه.
أسئلة للإنسان الطبيعي
أما في كتب أوكسفورد المشار إليها، فتتنوع الأسئلة مثل: "اذكر عنصرين شكَّلا التجارة في العالم القديم وناقشهما"، و"اشرح كيف ساعد انتشار اللغة العربية في العالم الإسلامي في ازدهار التجارة"، و"ماذا يحدث لسكان مجتمع ما لو اجتمع به بحارة وتجار من ثقافات مختلفة؟"، إلى جانب أنشطة جماعية مثل تصمم ملصقات أو تجهيز عروض تقديمية عن موضوعات من الكتب المقررة مع إمكانية أن يعتمد التلاميذ على مصادر خارجية ذات صلة.
وكما يتبين من هذه الأسئلة والأنشطة، ليس مطلوباً من التلميذ أن يحفظ شيئاً، بل مطلوب منه الكتابة عن موضوعات بطريقة تثبت فهمه وتشجعه على استخدام معلوماته في التحليل والاستنباط.
وبالطبع، لا تخلو كتب أوكسفورد من الأسئلة الموضوعية، لكنها قليلة العدد وتعتمد على ربط معلومات متنوعة ببعضها البعض حتى يمكن للتلميذ الإجابة عليها اعتماداً على معلوماته المستقاة من الكتب ومن قراءاته الخاصة أو معلوماته العامة من أي مصدر.
عرض وجهات النظر
لأن مقررات التاريخ المصرية "مصرية"، يصر مؤلفوها على طبع وجهات نظرهم الخاصة وصبها صباً في أدمغة التلاميذ؛ ولذا، نرى أن ما يعجب به هؤلاء المؤلفون من قادة تاريخين "قائد عظيم" له "إنجازات تاريخية" والعكس صحيح بالطبع. أما كتب أوكسفورد فلا تصف شخصية تاريخية ولا حدثاً بوصف يسبغ عليه صفة إيجابية أو سلبية، فهي تعرض المعلومة بتحيز لتترك "دماغ" التلميذ حرة في تشكيل رأي خاص به ولا تسلط عليه رأياً غير رأيه.
نظرة عامة للأمام
بالطبع، ما ينطبق على مقررات التاريخ في مصر يصدق كذلك على مقررات كل المواد التي يضطر أبناؤنا لحفظها عن ظهر قلب دون فهم في كثير من الأحيان، وبالطبع دون تطبيق أو تحليل أو تقييم، وهي الخطوات الأعلى في هرم بلوم والتي أظن أن أغلب من يضعون تلك المقررات "يحفظونها" عن ظهر قلب. فهل تصلح المقررات الحديثة لمن هم دون الصف الرابع ما أفسده تعليم الحفظ "الصم"؟ وهل يخرج لنا هذا النظام الحديث مواطناً متعلماً فاهماً واعياً مستنيراً؟ لنترك الإجابة للزمن. حسب عربي بوست
سِت فوائدَ تجعلك تقرأ التاريخ بنهم
أكبر ما يعاب على الأمة العربية أنها لا تقرأ، ولا تبغي لمسلك القراءة سبيلا. وأعظم من ذلك أنها لا تقرأ التاريخ، ولا ترجع إليه لتتخذه نبراسا ونورا في طريقها ليكشف لها الضباب ويزيل عنها الغبش، لتبني الحاضر وتشيد صرح المستقبل بأيادٍ ثابتة. فالتاريخ أعظم معلم للبشرية، فيه الحِكم والعبر، فيه التجارب والسير، منه نعرف الصواب فنتبناه، ونعرف الخطأ فنتفاداه. التاريخ هو الأساس الذي تبنى عليه البنيان الشامخة، هو الأصل الذي منه تتفرع الفروع.
ويكفيك كي تعرف أهميته أن تعلم أنه ثلث القرآن، فالقرآن الكريم ينقسم إلى ثلاثة أقسام: قسم متعلق بالتوحيد، وآخر متعلق بالتشريع، وثالث متعلق بالقَصص، فهل تظن أن ثلث القرآن هكذا حكي وسرد وحِكم بلا فائدة! وهنا يرد علينا سؤال؛ إذا كان التاريخ يكتسب كل هاته الأهمية فلماذا تعزف الأمة عن قراءته؟ وما فائدة قراءة تاريخ لزمان ولّى وغبر؟ فلْنُشغل أنفسنا بما نحن فيه فذاك أولى!
علينا أن نعلم أن أمة بلا تاريخ ميزانها صفر بين الأمم، وفي الحقيقة ليست هناك أمة لا تاريخ لها، إذ كيف يُعقل أن يوجد حاضر لا ماضي له، وإنما هناك طمس وتزوير للحقائق، إما لتضليل الحق وإما لأن تاريخهم لا يُشرِّف بأحداثه البشعة، أو أن فترة من الزمن لم تدون. وكثير من الدول ممن لم يدون تاريخها تخلق أشخاصا وهميين وأبطالا أسطوريين من الخيال، وتنفق أموالا باهظة على مثل تلك المشاريع من إنتاج أفلام وطباعة كتب..
لا يُراد لنا أن نعرف تاريخنا المجيد، خدمة لمصالح شخصية وأجندات سياسية، فتاريخنا العظيم تعرض لتزوير منقطع النظير، وهنا يأتي دور القارئ الباحث.
ثم أسألك سؤالا، لماذا تهتم كثيرا بمعرفة آباءك وأجدادك؟، في حين نجد أن الابن غير الشرعي يمقته المجتمع، لماذا يا ترى! لأن من لا أصل لا فرع له، ولولا قصر المقام لسقت لك أمثلة وأدلة لتتبيَّن الأمر عن بصيرة.
لماذا لا نقرأ التاريخ؟
هناك عدة أسباب تجعلنا نعزف عن قراءة التاريخ منها:
أولا: ما نقرأه منذ نعومة أظافرنا في المقررات المدرسية في مادة التاريخ، فغالبا ما تتناول أحداثا هامشية، وفي الغالب نجدها تتضارب مع الحقيقة، ولا يُراد لنا أن نعرف تاريخنا المجيد، خدمة لمصالح شخصية وأجندات سياسية، فتاريخنا العظيم تعرض لتزوير منقطع النظير، وهنا يأتي دور القارئ الباحث، فالحقيقة لن تأتي إليك على طبق من فضة، بل عليك بالبحث والسبر لتكشف الحقيقة جلية من مصادرها وتزيل التشويش عنها.
ثانيا: الكثير منا يجد أن التاريخ شيء مُمِّل، بأحداث طويلة وكثرة أسماء وشخصيات لا طائل من ورائها. وهذا نقول له أن النهر أوله قطرة ماء، والزوبعة تثيرها حبة رمل، فعليك بقراءة الروايات التاريخية والمذكرات الشخصية في البداية، وكذا مشاهدة الأفلام التاريخية، وإن كان كل هذا لا يحمل تاريخا زرينا ولا يكسبك المَلَكة التاريخية، وكثيرا ما يَتِم طمس الحقيقة فيه أو لوي عنقها، إلا أنه كبداية لا بأس بها لطرد الممل وبث شغف القراءة.
ثالثا: وهو عامل نفسي يتمثل في ضعف الشخصية والانبهار بالغرب، واتباعهم فيما قل أو جل حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلناه، وهذا يزرعه بالأساس في نفوس الشباب العربي الهيام بنجوم السينما والكرة وكل لامع وبارق، وبالتالي خلقنا شيئا من لا شيء وأساطير من الخيال، في المقابل استصغرنا كل هو عربي أو إسلامي وركناه في زاوية التخلف والرجعية؛ فالانبهار يولد الانصهار فالاندثار.
رابعا: وهناك طابور رابع، لا يجد في قراءة التاريخ أدنى فائدة، إذ تلك أحداث ولَّى زمانها وبليت عظام منتجيها.
يسلط التاريخ الضوء على الحركات الدينية والسياسية والعلاقة الجدلية بينهما؛ الأهداف التي أدت إلى تلك الحركات وأسبابها وغاياتهايسلط التاريخ الضوء على الحركات الدينية والسياسية والعلاقة الجدلية بينهما؛ الأهداف التي أدت إلى تلك الحركات وأسبابها وغاياتها.
من فوائد التاريخ:
للتاريخ فوائد جمَّة لا سبيل لحصرها، إذ كل شيء مرة عليه زمن بداية من اللحظة التي تقرأ فيها هاته المقالة تاريخ، وكل العلوم لها تاريخ، فأبعاد التاريخ الثلاثة التي هي الزمان والمكان والحدث تشمل كل شيء ولا يخلوا موجود منها؛ وإنما نذكر هنا ما جادت به القريحة بشكل من الإجمال.
أولا: إن بالانكباب على قراءة التاريخ وسبر حكمه والغوص تحت نواميسه يستطيع اللبيب الفطن توقع المستقبل، إذ لا سبيل إلى استشراف ما هو آت إلا عبر دراسة ما فات، وكفى بها من فائدة جليلة، وهذا لا يناقض أبدا علم الغيب، وإنما هذا مبني على دراسة تحليلية تحت قواعد وأرقام وإحصاءات وتجارب سالفة.
ثانيا: الوقوف على التجارب الصحيحة الدارة للمنافع وتبنيها، والنظر في أخطاء الأولين وتفاديها، إذ لا فائدة مع إعادة أخطاء سبقت، تُنفق فيها الأموال وتبدل الجهود لنعيد نفس الخطأ، وهذا ينطبق على حياة كل فرد منا وعلى واقعنا المعاش، فخطأ اليوم لا تعده غدا، بل قومه وسدده.
ثالثا: أن بدراسة التاريخ تعرف الصديق من العدو، وتعلم كيف يفكر خصمك، وما هي أساليب مكره، وكيف يخطط لك، إذ إن الإنسان هو نفسه مذ أن خُلق، وإنما التغيير البسيط يأتي في نمط الحياة، وهذا لا يؤثر كثيرا في أفكار الإنسان، وأقصد هنا الأفكار الأساسية كالأديولوجيات والثوابت الدينية والفكرية.
رابعا: يساعد التاريخ كافة الباحثين والمتخصصين في تتبع مسار تخصصهم وكيفية تطوره وتفرعه، وما الضرورة التي دعت لنشأة ذاك العلم، وهذا يساعد كثيرا في تطوير مناهج العلوم وإضافة الجديد لها بشكل أوضح وأدق.
خامسا: يسلط التاريخ الضوء على الحركات الدينية والسياسية والعلاقة الجدلية بينهما؛ الأهداف التي أدت إلى تلك الحركات وأسبابها وغاياتها.
سادسا: وأخيرا يعطينا التاريخ نماذج متنوعة من القدوات في شتى الميادين وكافة الأصعدة، لتربية أجيال ذات شخصية قوية تعتز بتاريخها وأبطالها لا بالوهم والأساطير، وتعيش الواقع لا الخيال.
وفي النهاية يبقى التاريخ أعظم معلم عبر الزمن، ومن لا يهتم بالتاريخ لا هُوية له، وما ينفك أن يكون إِمَّعة عَالةً على غيره شاغرا فاه انبهارا بالغير، مغلوب على أمره، كما قال ابن خلدون: المغلوب مولوع دائما باتباع الغالب. حسب الجزيرة
اضافةتعليق
التعليقات