في إحدى الليالي الشتائية الممطرة والعاصفة، كنت أجلس وحيداً في ساعة متأخرة جداً من الليل بجانب مدفأتي المتقدة، وكان لهب المدفأة يتراقص بعنفوان بالغ وبطريقة تعطي الإنسان شعوراً بالأمان من غضب الطبيعة و زمجرتها في الخارج. وفجأة شعرت أن قلبي قد فر من بين أضلعي وغادر صدري للأبد، ولم أجد، حتى هذه اللحظة، التفسير المنطقي لتلك الموجة من الخوف الذي اجتاح كياني والذي لم يتناسب حجمه إطلاقاً مع صوت القرع العنيف على باب غرفتي الكئيبة في تلك الساعة المتأخرة من الليل.
وقد انحسرت موجة الخوف الغامض تلك بعد أن دخل عليّ أحد أصدقائي وهو مبلل بمياه الأمطار من رأسه وحتى أخمص قدميه. دخل وهو يخفي شيئاً تحت إبطه وداخل سترته الخارجية، وقبل أن يلقي علي السلام، أخرج ذلك الشيء من داخل سترته واتضح فوراً أنه كتاب قديم وقد بدت عليه فعلاً علامات القدم وآثار الزمن، ثم ابتدرني قائلاً بلهفة:
لقد أحضرت لك كتاباً رائعاً لم تقرأ مثله من قبل، ولم أستطع أن أصبر حتى الصباح كي آتيك به، ولذلك جئت إليك الآن في هذا الوقت المتأخر من الليل، وقد عثرت على هذا الكتاب النفيس اليوم صباحاً عند أحد بائعي الكتب القديمة والمستعملة على أحد أرصفة مدينة دمشق.
وبالفعل، ما أن وقعت عيناي على ذلك الكتاب القديم وعلى عنوانه حتى أيقنت أنه فعلاً كتاب نفيس كما وصفه حامله. وما أن قرأت الصفحة الأولى منه حتى غبت عن كل ما هو حولي، عن الأمطار وهزيم الرعد، عن عويل الرياح في الطرقات وعن زمجرة اللهب في المدفأة، بل غبت عن صديقي نفسه.
لقد كان ذلك الكتاب الصغير يحمل عنوان (الشرق والإسلام في أدب غوته) للأديب والمفكر المصري (عبد الرحمن صدقي)، والكتاب من مطبوعات القاهرة عام 1967.
إن صديقي القادم تحت الأمطار من أجل تقديم ذلك الكتاب رفض الجلوس وختم زيارته السريعة بقوله: أنا لم أحضر لك هذا الكتاب لتقرأه الآن، بل أتيت به إليك كهدية للذكرى والفائدة.
أعدت فور مغادرة صديقي، قراءة الصفحة الأولى ولم أرفع رأسي عن الكتاب المذكور إلا عند نهاية الصفحة الأخيرة منه مع شروق الشمس وإطلالة فجر اليوم التالي.
وبعد تلك القراءة الأولى لذاك الكتاب، بدأت الأسئلة المختلفة تزدحم وتتصارع في رأسي: كيف استطاع فيلسوف ألمانيا وشاعرها الأعظم أن يتوصل إلى تلك الحقائق العميقة عن الإسلام وعن النبي المصطفى وأهل بيته الأبرار عليهم السلام؟
ما هي الدوافع التي جعلت ذلك الفيلسوف والشاعر، يوهان غوته، يُقبل على نظم ديوان شعري ضخم معطر بعبق الشرق وسحره، وبأنفاس الإسلام وروحانيته، حتى أنه أطلق عليه عنواناً مميزاً وهو (الديوان الشرقي للمؤلف الغربي)، وقد جمع بين دفتيه قصائد عذبة عن الشرق والإسلام تعد من نفائس الأدب العالمي الرفيع؟
وهل الجوانب التي أعجبت الفيلسوف والشاعر العظيم (غوته) في شخصية علي أمير المؤمنين عليه السلام هي نفس الجوانب التي أعجب بها جبران ونعيمة وجرداق وسلامة والإنطاكي وماسينيون وكوربان وكارلايل وديفو وغيرهم من فلاسفة ومفكري الشرق والغرب؟
لماذا كتب غوته وغيره من الأدباء والشعراء والفلاسفة المسيحيين عن دور الإمام علي عليه السلام وأهل البيت المحمدي في إعلاء شأن الرسالة الإسلامية دون غيرهم من صحابة رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – ؟
بعد فترة طويلة من البحث والعناء وإجراء الكثير من المقارنات بين كتابات المسيحيين عن أمير المؤمنين علي عليه السلام، توصلت إلى نقطة هامة جداً، وهذه النقطة الهامة يمكنها أن تجيب على الكثير من الأسئلة والاستفسارات.
فالغالبية العظمى من رجال الفكر والأدب من المسيحيين المعاصرين يرون في الإمام علي عليه السلام صورة رسول ونبي أكثر مما يرون فيه صورة خليفة أو ولي. والبعض الآخر من الباحثين والمفكرين في الغرب يدونون اسمه الشريف في معاجم الآلهة والأرباب، شأنه في ذلك شأن الآلهة والأرباب عند الإغريق والرومان والشعوب البدائية البائدة.
وعلى الرغم من الموقف السلبي الواضح الذي وقفه الإمام علي عليه السلام من مسألة الغلو فيه، والنهي القاطع عن اتخاذ أو تبني أي موقف نابع من المغالاة التي قد تخرج المرء من دائرة الإيمان إلى دائرة التيه والضياع وفقدان الموقف الإيماني الصحيح واختلال الميزان الروحي السليم، إلا أن السؤال الذي يفرض نفسه علينا وعلى كل مفكر وأديب مسيحي خاض تجربة الكتابة عن الإمام علي عليه السلام ومعاجزه الفكرية وخوارقه البدنية:
هل جاءت نظرة أولئك المسيحيين عن الإمام علي عليه السلام من الفراغ، أم أنها جاءت من خلال ما عرفوه عنه من كتب السير والأخبار التي تتناول السيرة النبوية الشريفة وعلاقته عليه السلام بها بأدق تفاصيلها ومعطياتها؟
والجواب بكل بساطة، هو أن وجهات نظرهم جاءت بناءً على أسس ومعطيات مستمدة من أمهات الكتب المعتبرة للعلماء والمؤرخين المسلمين. غير أن الشيء اللافت للنظر هو أن أولئك المفكرين المسيحيين الذين رفعوا الإمام علي عليه السلام إلى مرتبة تفوق مستوى الرسل والأنبياء الذين قلما يجود الزمان بأمثالهم، إنما اعتقدوا ذلك لأنهم وجدوا في الإمام علي عليه السلام صورة ومرآة الكمال، ولسان وترجمان الجلال، واليد العليا التي تفرق بين الحق والباطل والحرام والحلال.
فهو باختصار – من وجهة نظرهم – ذاك الإمام الكامل في كل جانب من جوانب الوجود حتى إنك لتخاله، بكماله المتكامل الجوانب، المرآة الصادقة لإرادة واجب الوجود والفكر المبدع والمدرك لأسرار كل ما هو موجود.
ان الكثير من العلماء والفقهاء والمتصوفة المسلمين قد حاروا في فهم الإمام علي عليه السلام وإدراك مكانته السامية التي خصه الله سبحانه وتعالى بها دون غيره. فإذا كان هذا حال العلماء والمتصوفة والفقهاء المسلمين في ما يتعلق بشخصية الإمام علي عليه السلام، فكيف سيكون الحال، إذاً، مع المفكرين المسيحيين الذين طاروا محلقين حائرين في فضاءات الإمام علي عليه السلام ومداراته الإعجازية؟!
فلنتوقف قليلاً مع ابن عربي، ذلك المتصوف المسلم الشهير، حيث يقول واصفاً الإمام علي بأنه "سر الأنبياء والمرسلين وسيد الأوصياء والصديقين، ... الظاهر بالبرهان، الباطن بالقدرة والشأن، بسملة كتاب الموجود فاتحة مصحف الوجود، حقيقة النقطة البائية والمتحقق بالمراتب الإنسانية، حيدر آجام الإبداع الكرار في معارك الاختراع، السر الجلي والنجم الثاقب".
وإذا كانت هذه هي صورة الإمام علي عليه السلام عند ابن عربي وعند غيره من المتصوفة والعلماء وأرباب الفكر والمعرفة من المسلمين – وإن كان هناك تفاوت في نظرتهم إليه وفي تقدير مقامه الحقيقي – إلا أن هذه النظرات والآراء قد تبلورت بمجملها عند أهل المعرفة والفكر من المسلمين والمسيحيين على حد سواء نتيجة إيمانهم العميق بأن أحاديث الرسول المصطفى – صلى الله عليه وآله وسلم – في علي عليه السلام لم تكن إلا غيضاً من فيض، ولم تكن إلا بمثابة باقة صغيرة من ورود جمعت من بستان فسيح.
وقد أيقن أولئك المفكرون من المسلمين والمسيحيين أيضاً أن هدف الرسول – صلى الله عليه وآله وسلم – الأساسي من تقديم تلك الباقة الجميلة من الورد الجميلة التي اقتطفها من بستان فضائل علي عليه السلام، هو أن يعطينا صورة جلية عن أعلمية علي عليه السلام في كل حقل من حقول الحياة، وعن عمق ورسوخ إيمانه بالله الذي لم يبلغه أحد قط.
اضافةتعليق
التعليقات