مع إشراقة شمس الصباح ومن إحدى بيوتات قرى المحافظات الجنوبية، يتصاعد دخان حطب محترق من تنور؛ استعدادا للخبز، فهي أم تحب أن يتناول ولدها الوحيد الخبز الساخن مع الفطور، عملت كثيرا لتوفر له حياة كريمة، امرأة وحيدة بعطاء لا ينضب كالنبع الرقراق.
مرت السنين، وتغير معترك الحياة، ورغم الأـحداث الشائكة أكمل ولدها دراسته الجامعية، ليفتتح محل بقالة صغير في قريته؛ لأنه لم يحظَ بالعمل في اختصاصه.
وفي أحد الأيام، أطرقت مسامعه فتوى الجهاد الكفائي لقتال عدو شرس، تشكلت على ضوءها فصائل عُرفت بالحشد الشعبي، لبّى العديد من اصدقاءه ذاك النداء، ودّعهم وحلمه اللحاق بهم، لكن كيف يفعل ذلك مع أم تخشى عليه نسيم الربيع؟.
عاش صراعا نفسيا، بين عشقين غُرسا في قلبه منذ نعومة أظفاره (أمه ووطنه)، أي نداء منهما يلبي؟ تساؤلات كثيرة تعج في رأسه، جلس مع أمه يتناول طعامه شارد الذهن، لاحظت ذلك فسألته:
"سالم! يمه شبيك مريض؟".
"لا يمه مو مريض مابيه شي".
"بس يمه فكرك مو يمك حاسه بيك شي ومتحير شلون تحجي".
"يمه تذكرين بيت عمي أبو محمد الصباغ من كضّوا الحرامي ابيتهم؟".
"اي يمه أتذكر، صارت هوسه والديرة كل ويلادها طبوا لبيتهم وشبعوه كتل".
كانت تتحدث عن الموقف بكل فخر، بأن قريتهم آمنة بشجاعة رجالها، فقال: "ومن رجعت من الكلية سولفتيلي، يمه تمنيتك ويه أخوتك، تذكرين يمه؟".
"اي والله يايمه النسوان مفتخرات بيهم وعمك أبو محمد اتشكر منهم كلش هواي".
"يمه انقهرتي لأن ما شاركت اخوتي، زين متنقهرين إذا اخوتي راحوا يلزمون الحرامي الجبير وما أروح وياهم؟".
رمقته بنظرات استفهام "يا يمه حرامي جبير؟ خايب هذا وين؟ وشعندك مكابلني؟ يمه شمتاني ليش مارحت وياهم؟!".
"علمودج يمه مارحت كلت ما ترضين".
"عفية عليك يمه وين الغيرة؟ شلون تعوف اخوتك؟ هاي مو رجاتي بيك أبد".
"يمه عرفتي الحرامي الجبير منو؟ ومنو اخوتي الّلي راحوا يكضونه؟".
"لا والله يايمه ماعرفته! ياهو هذا؟ عمت عينه إن شاء الله".
"يمه هذا الحرامي اسمه داعش، اجانه من بره وداس ترابنه، ويريد يهدم المراقد، ويذبح الوادم، واخوتي يايمه فزعوا يقاتلونـه، وظليت امتاني رايج، ها يمه شتكولين أروح لو لا؟".
نظرت إليه بعينين مبتسمة مغرورقة بالدموع "يابعد طوايفي يايمه، الله شكاتبلنه يصير، روح يا شمعة بيتي محفوظين بالله وأهل البيت".
تلك الليلة لم تكن عادية، خاصمها النوم، تزاحمت الصور في مخيلتها، هل سيكونون بخير؟ ذرفت دموعها بصمت، سلمت أمرها إلى بارئها، فهو أعلم بخفايا الأمور.
حانت لحظة عناق سواتر العز، بعد أن أتم تدريبه، ارتدى بزّته العسكرية، وكأن خارطة بلاده ارتسمت عليها، تعطر بدعوات أمه، تزفه ريح الصبا على أكف الورد.
اشتد وطيس المعارك شراسة، والانتصارات تطرز سماء الخائفين بالأمان، ليفاجئ سالم في فجر أحد الأيام، بوصول قافلة دعم من قريته، شاهدها تترجل من السيارة، تقف كنخلة شامخة، تحمل بيديها أرغفة الخبز، وتباشير الفرحة تُزهر على محيّاها، يُطالعها بدموعه المتسابقة مع أنفاسه لاحتضانها، امتزجت نظراتهما مع اشراقة فجر جديد، حمل نسيمه رائحة خبز من نوع آخر.
اضافةتعليق
التعليقات