كلام مؤلم وصادم صدر ذات مرة من شخص يحب الله ولكن لا يؤمن بعدالته المطلقة! عندما يتلفظ بعبارات منها: "احب الله ولكن لا اراه عادلاً!".. وعندما تسأله: ما هو دليلك؟
يقول، الامر لا يحتاج الى دليل، فقط انظروا الى الواقع هو خير دليل، لمَ يرفع ربي بعض العباد ممن نرى ان ظواهرهم وافعالهم السلوكية غير انسانية تلك التي لا تجعلنا نتقبل ان يكون لهم كل هذا العطاء وبالمقابل يُدني (يفقر) بعض العباد من الطيبين الصلحاء؟.
سأؤمن بأنه عادل اذا جرد اصحاب الرفعة الغير مستحقين لها، واعطاها لأهلها من اهل الاستحقاق!.
وحيث تصرخ هذه التشكيكات والاشتباهات في داخل كثير من الشباب؛ البعض يجرؤ على طرحها، والبعض الاخر يحتفظ بها فتظل عائق في طريقه، وحبل يوصله الى كل ما يرديه!! والى كل ما من ربه لا يدنيه..
ذلك لأنهم لم ينطلقوا في علاقتهم منه سبحانه، بل مما سمعوه ورأوه من خلقه؛ فهم صدموا بالواقع وقسوته ومرارته فتشكلت عندهم صورة عن الله وعن دينه ممن ادعى التدين، فتشكل لديهم حاجر منعهم من دراسة دين ربهم ومعرفة ربهم..
الأمر فقط يحتاج الى تعمق العلاقة بالله، وهو يتطلب ان ينظر هؤلاء الشباب بعين البصيرة من حولهم ليشاهدوا كيف ان كل شيء يجري من منطلق رب عليم حكيم رحيم؛ فضلاً على انه لا يعاملنا بعدله فكيف يمكن ان نتصور ان يصدر عنه شيء من الظلم؟!.
ففي دعاء مذكور في مفاتيح الجنان نقول:
" انما يحتاج الى الظلم الضعيف..."، فالذي يؤمن ان الله هو القوي المطلق عليه ان يؤمن انه العزيز الغني عن ظلم العباد؛ فأن تكون مؤمن بالله وتقول "سبحان الله" يعني انك تنزهه عن كل عيب ونقص..
ولرفع هذه التصورات يمكن من خلال جواب قرآني قد صدر من الجليل المتعال، يقول تعالى لكل من يتساءل:
((أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ ۚ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۚ وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا ۗ وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ)).
عندما نتأمل بهذه الآية نرى كم هي صريحة، وتجلي الغشاوة عن البصر لتنفتح عندنا البصيرة فتعطينا قانون ثابت لنبصر به مفهوم هذه الرفعة (الظاهرية/المادية):
اولاً: ان منتهى العبودية لله تعالى تتطلب ان نُسلم لحكمة الله في افعاله، فهو الاعلم بتقسيم الارزاق وبما يصلح لكل عبد من العباد.
ثانياً: هي تشير الى حقيقة مهمة وهي مظهر من مظاهر الرحمة الالهية المبنية على التكافل والتعاون الاجتماعي بين بني البشر؛ تأمل جيداً هذا الجزء من الآية: {لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا}.
اي ان (الرفعة) التي تُعطى للبعض من مال وجاه وسلطان هي ليست [بالأصل] كعطاء الهي اي بمعنى أنها جزاء او ثمن او مقياساً لرضا الله عن هذا العبد هذا من جانب، ومن جانب اخر ليست [مقياساَ] للضِعة لمن لا يُعطيهم تعالى هذا العطاء..
بل الأمر هو لغاية وهي [اختبار] لذلك العبد، فالرفعة المادية ما هي إلا اختبار الهي {لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم} اكثر من كونها تمييز لأنسان على أنسان كما في قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ ۗ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ...}.
فإذا اعطاك وجاهة لتجعلها في خدمة من لا وجاهة لهم..
اذا اعطاك مال لتنفقه على مستحقيه من اهل الحقوق والمعدمين..
اذا اعطاك علم لتنفع به من لا علم لديه..
اذا اعطاك قدرة وخبرة في شيء ما تتمكن ان تساهم في انجاح عمل غيرك، عليك الا تقصر فهذا واجب لأنه بالأصل من الله تعالى..
اما أذا حصل واستعليت بها على غيرك وسخرتها لظلم غيرك أو ما فيه فساد لن يتحقق معنى الرفعة المقصودة فيه، اي ستُسلب هذه الرفعة كما في تتمة الآية الاولى: {وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ}، فتأمل!.
بل ويكون صاحبها عنده تعالى مذموم، وإن كان عند عوام الناس ممدوح!
فحتى وان بقى الرزق المادي موجود عنده إلا ان بركته ونفعه على المستوى الباطني لمالكها سيُسلب ويختفي، ويكون وضيعا مخذولا..
اي يصبح صاحبها: (مليء الجيب خال القلب)، (ذو مكانة عند الخلق وبلا كرامة عند الخالق).
مثال من الواقع:
انظر بعين بصيرتك لترى أثر سلوكهم الذي بعينيك لم تراه لتعرف هل هم في رفعة حقاً أم لا؟!
أن يكون مشهور ذو سلطة او مال لكن يفعل عملا بالخفاء او خطأ يحط من سمعته فلا يشمل بإسم الله الستار! يفتضح أمام كل الناس، وتظهر عيوبه ومشكلاته، وتنتشر بأسرع من البرق في كل البقاع مع وجود تطور وسائل الاتصال والايصال، والبعض منهم يختم حياته بالانتحار! لأنه في قرارة نفسه يكون غير سعيد [مخزي] مع كل ما يملكه من الرفعة الظاهرية!.
فهل تبقى قيمة لتلك الشهرة/ الوجاهة بعينك بعد الآن؟
أ وليست هذه هي الضعة بعينها والخذلان؟
وبالمقابل ألا ترى ايها المحترم.. هؤلاء الذين لا يملكون ما يملكون هؤلاء ترى أحدهم فقير اليد لكنه غني القلب لأنه غني بإيمانه برب السماء والارض.
قد أظهر الله تعالى فيه كل جميل، بسيط في حياته وهيئته، لكنه يغدو عزيزاً ذو هيبة بين خليقته، يستر له تعالى كل عيب، ويمحوه عنه في الغيب.. أ وليست هذه الرفعة بعينها؟.
فيا أيها الانسان.. يا من رأيت من طغت عليهم المادية فسلبتهم إنسانيتهم لا تجعلهم مقياس لنظرك لرب السماء فهم في اختبار الدنيا، وانت لا تغفل فانك مثلهم ايضاً في اختبار فلا تغفل عن رفيع الدرجات، واعلم ان في الاخرة فقط يكون هناك للكل جزاء.
كن من أهل البصيرة، ولا تجعل نظرتك محصورة بعالم الماديات، ولا تجعلها عندك المقياس بل اجعلها دافع لكي لا تتخلى عن رفعتك وإنسانيتك..
اضافةتعليق
التعليقات