يصف أحد الأفاضل أدعية الإمام السجاد (عليه السلام) بأنها ”صيدلية القلوب“، فهي بالإضافة لقيمتها “اللفظية” التي ندعوا ونتقرب بها إلى الله تعالى، لها قيمة “معرفية” كبيرة لنا لما تحمله من مضامين عالية بعلو درجة معرفة قائلها بربه.
فللمتأمل بها يجد إنها الترياق لكل داء، وهي دواء وشفاء أمراض القلب والنفس على حدا سواء.
إذ يُعلمنا الإمام (عليه السلام) في دعاء مكارم الاخلاق كيف علينا أن نسعى ونطلب من الله تعالى أن نتحلى بما تحلى به الصالحون ونتزين بما تزين به المتقون بقول: “وَحَلِّنِي بِحِلْيَةِ الصَّالِحِينَ، وَأَلْبِسْنِي زِينَةَ الْمُتَّقِينَ، فِي بَسْطِ الْعَدْلِ، وَكَظْمِ الغَيْظِ، وَإِطْفَاءِ النَّائِرَةِ،…”.
فكما يُذكر ”إن الزينة أخص من التحلية، والتقوى أخص من الصلاح”، لذا فإن اختيار العبائر كان من إمامنا السجاد (عليه السلام) دقيقاً ومطابقا لما أتى به كتاب الله بقوله: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ}(الأعراف:26)، فكما إن للبدن لباس ظاهري/مادي يستره ويزينه، فللنفس لباس باطني/معنوي يزينها ويسترها.
ومن هنا نفهم قول الإمام علي (عليه السلام): “إن تقوى الله دواء داء قلوبكم،…، وشفاء مرض أجسادكم، وصلاح فساد صدوركم، وطهور دنس أنفسكم،…”(١)
فهناك داخل النفس ثورة قائمة وصراع لا يتوقف بين الخير والشر، وبين السعي لإظهار الفضائل، وبين طمسها وإبداء ما هو خلافها، فقد ورد عن النبي (صلى الله عليه وآله): “أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك”.(٢).
أما في الفقرات التالية -في حدود ما أفهم- لو دققنا في تسلسل العبائر في دعاء الإمام (عليه السلام) نجد أن “كظم الغيظ” قد توسط بين عبارتين هما “بسط العدل” و“إطفاء النائرة”، وكأن “بسط العدل” هو مقدمة لتحقق “كظم الغيظ”، فمن لديه نفس متزنة ولها ملكة العدل، هي لن تطغوا ولن تظلم ولن تعتدي أو تتعدى حدودها مع من هو أضعف منها أو تذلل أمام من هو أقوى منها، بل تبقى متزنة عزيزة مكرمة مع الأعلى والأدنى، وفي تعاملها متسمة بالتواضع لا الضعة، فالتقوى هي خير دواء وعلاج للنفس في هكذا موضع لتصل إلى ملكة العدل.
هذا وقد قِيل إن “الكظم” مأخوذ من كلمة عربية وهي “كظم القربة” أي شدها بإحكام بعد ملئها بالماء، لكي لا يُسمح بخروج شيء من الماء منها، و”الغيظ” هو أشد مراتب الغضب ودرجاته.
لذا فكظم الغيظ يمكن أن نعبر عنه بأنه: ضبط وإحكام النفس بعد امتلائها بالغضب فلا يظهر منه شيء، فهي بالنتيجة كما قال رسول اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) أنه قال: “مَن كَظَمَ غَيظاً مَلَأ اللَّهُ جَوفَهُ إيماناً”(٤). أي أماناً وسلاماً؛ فيخلو باطنه من الغضب فيملئ بالحلم، فتسلم سريرته وتصلح مسيرته.
ثم في الفقرة التي بعدها يُبين الإمام (عليه السلام) وجود ثمرة ومرتبة أعلى يتحلى بها الصالح من عباد الله والكاظمين لغيظهم المتقون، وهي التي عبر عنها الإمام ب(إطفاء النائرة)، فهو-أي كاظم الغيظ- لا يكتفي لنفسه بأن يكون ذو نفس ساكنة ومسالمة ومطمئنة، لا غيظ ولا عداوة فيها على العدو قبل الصاحب! وإنما هو يبادر ببسط العدل وإطفاء جذوة نار الغضب في نفس المقابل، فيكون بذلك مصداق لقوله تعالى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (آل عمران:134).
فالنفوس مهما كانت معادية وقد غلبت عليها القوة الغضبية واشتعلت فيها نيران الكراهية، إذا ما قوبلت بالصفح والعفو والإحسان، فهي ستُذعن وتتراجع وتسكن، وضميرها وفطرتها تتحرك بالود والسلم تجاه المقابل- فكما ورد- إن النفس جبلت على حب من يحسن إليها.
ومن هنا نعلم إن من أهم الوصفات العلاجية التي يريدنا الإمام (عليه السلام) أن نتداوى بها هي:
أن لا نكتفي بأن لا نرد الإساءة والعداوة بالمثل، بل نقابله بالإحسان، ولا نكتم له ما أبداه فنكن ممن يمزق لباسه الذي وقاه من أن يحمل بداخله العداوة والبغضاء، تلك التي لا تليق بقلب يحمل نور الموالاة لساداته النجباء، وأن نكون ممن تحلوا بحلية الصالحين وتزينوا بزينة المتقين، فنسعى ونسير جميعاً بطريق الألفة والصلاح.
فالمعادي والمبغض ما هو إلا مريض يحترق بنار نفسه الأمارة بالسوء، وغضبه المتوقد بالحسد والحقد، فلنطفئها بنور التقوى الذي اقتبسناها من نور أئمتنا الأطهار(عليهم السلام).
اضافةتعليق
التعليقات