عندما كنت صغيرة ترعرعت في أحضان جدتي وكانت تسرد علي قصص أصحاب الإمام الحسين عليه وعليهم السلام بطريقتها البسيطة والجميلة التي تقصد منها زرع حب الحسين وآل بيته الكرام في قلبي وعندما تحكي لي قصصهم أغمض عيني وأذهب إلى أرض كربلاء وواقعة الطف وأرسم قصص الإباء والتضحية في مخيلتي.
جدتي امرأة حازمة، كانت القوة عنوانها، لم أرَ لها دمعة تدمع ولا مصيبة تهزها، كانت كالجبل، رغم نعومة ملامحها كانت نظراتها مخيفة جدا وقوية، لم تكن تلك الجدة التي أراها في قصة ليلى والذئب ولم تكن الجدة التي تتكلم عنها صديقاتي في المدرسة كنت دائماً أرى جدتي الصقر الهائم في أعالي السماء، قوتها حنو وصمتها حكاية.
اليوم وبينما حان وقت سردها لقصة إحدى شخصيات أنصار الإمام الحسين عليه السلام، بدت جدتي مختلفة، مهزوزة جدا وملامح الهزيمة واضحة عليها، إنها ملامح غريبة جداً على جدتي لم أرها يوما، كانت عيناها تترقرق بالدموع تلك النظرة الحادة قد رقت في عينها، كانت تتأمل السقف وبقلبها حسرة كبيرة كأنها تفكر وشاردة في مكان ما.
وقفت مذهولة أمام باب غرفتها هل أدخل أم أرجع، إن دخلت أخاف من أن تراني وهي بهذه الملامح المهزومة والحزن العميق الذي يملأ وجهها، ترى ما الذي حدث لجدتي حتى تكون مهزوزة القوى وغارقة في همومها وبينما ذلك انتبهت إلى وجودي ونادتني لتقص لي قصة أحد أصحاب أبي عبد الله الحسين عليه السلام في واقعة الطف.
قلت لها: جدتي هل يمكنني أن أسألك سؤالا قبل البدء في قصتنا؟ قالت تفضلي، قلت لها لماذا أنت حزينة؟ من أحزنك لهذه الدرجة؟.
أجابتني: إن حزني بسبب الشخصية التي سنتحدث عنها اليوم إنها شخصية شجاعة وامرأة لن يكررها التأريخ فقد تغنت بشجاعتها ملائكة السماء، فهذه السيدة التي تمتلك كل معاني الشجاعة لم تجد بنفسها الذي هو أقصى غاية الجود وانما ضحت بمن هو أغلى من النفس، رغم أنها كانت نصرانية ولكنها عرفت من هو ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وآمنت بقضيته وثورته الإنسانية وسجلت بأحرف من نور مع اصحاب اباعبد الله الحسين في يوم عاشوراء.
جميع أصحاب الإمام الحسين عليه السلام ومناصريه ضحوا بأرواحهم فداء لنصرة سيد شباب أهل الجنة، ولكن هذه المرأة كانت تضحيتها مختلفة فهي من ربات الفروسية والشجاعة والحمية ومجاهدة من المجاهدات، حضرت أرض كربلاء يوم عاشوراء وشهدت ما جرى على آل الرسول من مصائب ومحن وشاركتهم نعم المشاركة ووضعت أكبر بصمة في واقعة الطف لتثبت حبها وولائها لآل بيت النبوة عليهم السلام.
قبل أن تضحي بنفسها ضحت بمن هو أغلى من النفس وأثمن من الروح ضحت بزرع نبت في داخل أحشائها وكانت تسقيه بدموع عينها وتطعمه من روحها، ضحت بمن هو نتاج تعبها وسهرها، ضحت بإبنها الذي لطالما انتظرته وحلمت به أن يزهر وينتج لها أحسن الثمار، زرعت فيه بذوراً خيِّرة لتقدمه قرباناً للحسين عليه السلام.
فعلاقة الأم بابنها أعظم علاقة ربانية وروحية هي كعلاقة الروح بالجسد علاقة النهار بالشمس علاقة الآذان بالصلاة، أسمى أنواع العلاقات في وجه الأرض فلن تستطيع أي أم أن تكون السبب في سماع صرخة ابنها الأخيرة بعد أن سمعت صرخته الأولى أثناء ولادته إلا أن تكون تلك المرأة تحمل صفات جبارة وإيمان قوي ولا يكون ذلك الشخص الذي قدمت ابنها قربانا له غير الغمام الحسين ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
إن أنصار الحسين عليه السلام يدركون أنهم ماضون نحو الشهادة، وأن أجسادهم الطاهرة ستكتب قصة انتصار الدم على السيف، فالرجال ينتصرون للحق، والنساء تواسي عقائل بيت النبوة، وهنَّ يكابدنَ ألم رحيل الأحبة، وفقدان فلذات الأكباد، ومسيرة السبي وماحملته من ترويع للأطفال، وترهيب النساء، لكن امرأة كأم وهب على كبر سنها، ما الذي حملها للقتال مع إنه ليس مفروضاً عليها؟ هذا ماكان يدور في داخلي أثناء سرد جدتي لقصة تلك البطلة، أغمضت عيني كعادتي لكي أذهب إلى أم وهب في خيالاتي وأسألها هذا السؤال.
كانت ملامحها كبرياء وابتسامتها تجول في الصحراء، أجابتني: إنه العشق الفاطمي إنه العشق الحسيني إنه العشق الزينبي إنه العشق المحمدي الذي جعلني ثورة لا أنطفئ وملأ قلبي للشهادة مع ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
رأيتها وهي تخرج مسرعة من خيمتها وسط الصحراء خالية من الآبار في أرض العراق وقد قصدها الإمام الحسين روحي له الفداء وأهل بيته وأصحابه الكرام وسألها عن ابنها وهب بن عبدالله بن الكلبي النصراني الذي كان حديث عهد بالزواج، فردت عليه، خرج كعادته ويعود في المساء محملا بالماء، فقال لها الإمام حينما يعود قولي له عليك بتصديق الرؤيا، وبمجرد أن ترك الإمام مكانه الذي كان يقف فيه وإذا بعين ماء قد انفلقت من تحت قدميه، تركها الإمام وتوجه بمن كان معه نحو كربلاء.
ظلت تنتظر ولدها بفارغ الصبر لتسأله عن رؤياه وحتى تعرف من هذا الرجل الذي بمجرد ذهابه أشرقت الأرض ماءً عذباً، حينما عاد وهب إلى أهله وشاهد العين سأل أمه عن الخبر فقالت له ولدي كأنما المسيح عيسى قد زارنا هذا اليوم، فقد سأل عنك وقال عليك بتصديق الرؤيا.
عند ذلك بكى وهب وقال يا أماه لقد رأيت في المنام هذه الليلة روح الله عيسى وكان بجانبه رجال عليهم الهيبة والوقار وكأنهم الشمس بجمالها وهيبتها، فقال لي المسيح يا وهب هل أنت من أمتي، قلت نعم، فقال اعلم إن الذي يقف بجنبي هو محمد رسول الله وخاتم الأنبياء وأشرف الخلق وبجانبه باب العلم وحامل الرسالة وزوج ابنة خاتم الأنبياء هو الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام وأيضا معهم ريحانة رسول الله وسيد شباب أهل الجنة إنه الحسين بن علي عليه السلام. يا وهب عليك أن تنصر الحسين غدا في كربلاء واعلم بأنك معه في الجنة وأن اسمك مع الأبرار وقد ناولني صحيفة قد كتب بها اسمي ثم أفقت من النوم.
الآن وأنت تخبرينني بما حدث، يا أماه الذي مر بك اليوم هو الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام.
هنا أم وهب عرفت رسالتها وطالبت ابنها بالذي غرسته به من أخلاق وقيم عميقة طيلة سنوات تربيتها له فأمرت ابنها بالالتحاق إلى ركب الإمام الحسين عليه السلام ليقاتل بين يدي إمامه وسيده ومولاه.
لبى وهب دعوة إمامه ونفذ كلامه والدته وذهب إلى مخيم الإمام الحسين عليه السلام ثم عاد مسرعا ووجهه متهللا مستبشرا وأخبر أمه بانه أسلم على يد الامام الحسين (عليه السلام)، هنا أم وهب علمت أنها قد غرست زرعاً صالحاً وإن ثمرة تربيتها لإبنها هي ثمرة طاهرة وأسلمت مع ابنها امام ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن التحقت مع ابنها إلى مخيم معركة الطف هو ليقاتل مع أصحاب الحسين وهي لكي تسبى مع عقيلة بني هاشم السيدة زينب عليها السلام.
حتى صار يوم عاشوراء، قالت أم وهب لابنها: قم يابني انصر ابن بنت رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) قم وقاتل قتال الشجعان ولبي دعوة ابن بنت رسول الله. فقال سأفعل ياأماه ماتأمريني به ولن أقصر إن شاء الله وذهب إلى ساحة القتال وعندما برز على جيش بني أمية اختلف القوم في معرفته لأنه كان نصرانيا وغير معروفا لديهم فقال:
إن تنكروني فأنا ابن الكلبي
سوف تروني وترون ضربي
ثم حمل عليهم ولم يزل يقاتل حتى قتل مجموعة منهم وعاد إلى أمه ليسألها: أرضيت يا أماه؟
بحسب الطبيعة البشرية فالأم تخاف على ابنها من مخاطر الحياة فكيف إن كان الموت هنا تقف كل أم كدرعٍ لتستقبل الموت بدلا منه ولكن الأمر كان مختلفا مع أم وهب وقفت بكل صلابة وقوة وهي عارفة ومتيقنة الطريق الذي سيسلكه ابنها وأجابته: لا حتى تقتل بين يدي مولاك الحسين. اذهب يابني أريدك شهيدا حتى أتفاخر بدمك الذي يسيل من أجل نصرة الحق على الباطل.
أما زوجة وهب وقد كان مضى على عرسها سبعة عشرة يوماً فقط، فقد قالت له: أسألك بالله ألا تفجعني في نفسك فقالت أم وهب لولدها لا تقبل قولها وارجع إلى مكانك وقاتل بين يدي مولاك. فاستجاب لدعوة أمه، نعم التربية العظيمة التي غرستها به ونعم الأخلاق العالية التي زرعتها بولدها.
عاد وهب إلى القتال وهو يرتجز:
إني زعيم لك أم وهب
بالطعن فيهم تارة والضرب
ضرب غلام مؤمن بالرب
حتى يذيق القوم مر الحرب
حسبي إلهي من عليم حسبي
وأخذ وهب أسيراً، فأتي به عمر بن سعد فقال له ما أشد صولتك ثم أمر به فضربت عنقه ورمي برأسه نحو عسكر الحسين عليه السلام. كان موقفا مفجعا يرمى رأس ابنها بين أحضانها بعد أن زجت به إلى ساحات القتال لم تفجع وتنحب لا بل أخذت الرأس وقبلته وقالت له: الحمد لله الذي بيض وجهي بشهادتك بين يدي أبي عبد الله.
ثم عدت على قاتله فقتلته، وشدت أم وهب بعد ذلك بعمود الخيمة على القوم فقتلت منهم رجلين، وهي تقول لهم: أشهد أن اليهود في بيعها والنصارى في كنائسها خير منكم. فيالها من امرأة اختارت طريقها بكل إصرار وعرفت أنها ستحشر مع الأخيار في دار القرار فبعدما قدمت فلذة كبدها قربانا للحسين عليه السلام همت بروحها فداءً لإبن بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وخرجت للقتال فعلت مالم تفعله أي امرأة أنها امرأة بقوة الرجال وبصلابة الجبال.
فناداها الحسين: ارجعي يا أم وهب، فإن الجهاد مرفوع عن النساء، فرجعت كئيبة وهي تقول: إلهي لا تقطع رجائي.
فقال لها الحسين عليه السلام: لا يقطع الله رجاءك يا أم وهب، أنت وولدك مع رسول الله وذريته في الجنة. ثم كانت مع آل رسول الله في السبي بعد عاشوراء.
كنت غارقة مع أصوات السيوف وصليل الخيول في معركة الطف وبينما عيني تطارد أم وهب أيقظتني جدتي من حلم اليقظة الذي كنت أحلمه بينما هي تسرد لي قصة هذه المرأة العظيمة.
قالت لي: وهل عرفت لماذا أنا اليوم حزينة.. كنت أفكر بكيفية الوصول إلى درجتها العالية ويقينها الكبير وكنت أفكر بتضحيتها الكبيرة التي هي لاشيء أمام الإمام الحسين عليه السلام.
وكعادتها بدأت تشرح جدتي العبرة من هذه القصة فقالت: إن أم وهب تجيد الفروسية، وكانت شجاعة تتصف بخصال نادرة إحداها الحمية والنخوة في الدفاع عن الحق، بصمت أم وهب في واقعة الطف بصمة كبيرة تبقى تتناولها الأجيال وتأخذ منها عبر البطولة والفداء، فقد كانت تشجع ابنها وهب على القتال ونصرة الإمام الحسين عليه السلام، وطلبت منه الشهادة أو الشهادة في هذه المعركة الفاصلة، إذ كانت تريد نيل شرف الوقوف هي وابنها إلى جانب الإمام الحسين عليه السلام، وكانت ردة فعل ابنها متوقعة من شاب ربته أم كأم وهب فلبى نداء والدته بكل شجاعة وإباء ونفذ وصية والدته بالإستشهاد.
وعندما نال الشهادة حمدت أمه الله عز وجل ووجدت أن ابنها قد بيض وجهها بين يدي أبي عبد الله، وهذا النمط من النساء نادر وغير عادي، وهو نوع خاص يفوق ماعليه كثير من الرجال.
إصرار تلك المرأة الشجاعة على أن تقاتل الأعداء بعد استشهاد ولدها، لذا سارعت لقتل قاتله أولاً وأفلحت، ثم قتلت بعمود رجلين آخرين، وهل من مثلها ينسى.. لاوالله أبداً فهؤلاء هم الخالدون بيننا، وهم الخالدون في جنات النعيم "وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ" من سورة 3 آل عمران الآية 169.
إن الامام الحسين عليه السلام عندما اختار وهب كان يعلم أن له أماً ربته على الأخلاق، إن له أما هي ثورة لم ولن تنطفئ كان يعرف قوة هذه المرأة العظيمة لذا اختارها رغم أنها نصرانية، ويجب علينا كنساء يابنتي أن نكون أم وهب فهنالك إمام ننتظره كل يوم وندعو فرج خروجه إلينا في كل صلاة ونتمنى أن نكون من أنصاره في كل ثانية فكيف سيختارنا كما اختيرت أم وهب؟.
عندما نكون ثورة مشتعلة ومتقدة أمام مناصرة الحق ضد الباطل عندما تكون الأخلاق والقيم هي نبراس طريقنا وسلاحنا لتربية أبناءنا عندما يكون إيماننا بالله سبحانه وتعالى أقوى من كل شيء وسلاحنا في الحياة وإيماننا بعقيدتنا وإمامنا المنتظر الإمام الحجة ابن الحسن عجل الله تعالى فرجه الشريف أقوى من حبنا لأنفسنا وأولادنا هنا سيختارنا إمامنا لنكون من أنصاره.
اضافةتعليق
التعليقات