في كل مساء، حين يهدأ ضجيج العالم، تخلع الأم العاملة معطف العمل وتجلس أمام مرآتها، لا لتُصلح شعرها، بل لتتأمل وجهها الذي صار يحمل ملامح تعبٍ لا يراه أحد.
تُحادث نفسها بصوتٍ خافتٍ يتناوب بين التنهيدة والسؤال:
هل أنا أمٌّ قاسية؟
سؤال يتكرّر في أعماقها كما يتكرّر النبض، كأنه خُلق ليذكّرها بأنّ في داخلها قلبًا لم يهدأ يومًا، قلبًا يرفض أن يتصالح مع فكرة التقصير، مهما كانت الظروف.
ليست قسوتها قرارًا، بل قناع الحنان المرهق.
فهي أمّ تعيش بين مطرقتين: عملٍ يستنزفها وبيتٍ يشتاقها، تحاول أن تقف في المنتصف دون أن تسقط.
كثيرًا ما تسأل نفسها في نهاية كل يوم طويل: هل أنا صارمة أكثر مما ينبغي؟ هل فشلت في أن أكون الأم التي تمنّيتها لابنتي؟ تُحاكم ذاتها حين تضع رأسها على الوسادة، وكأنّها في محكمةٍ لا قاضٍ فيها إلا ضميرها.
هي ليست كأمّها القديمة، تلك التي كانت تنتظر ابنتها عند الباب برائحة الغداء ودفء الحنان.
اليوم، لا تملك ترف الانتظار، فبين ضغط الدوام ومتاهات المسؤوليات، يظلّ قلبها معلّقًا بابنتها.
تسمع صوتها عبر الهاتف، تتابع تفاصيلها الصغيرة من بعيد، لكنها تشعر دائمًا أنّ شيئًا ما لا يصل، أنّ المسافة ليست في الكيلومترات، بل في الحنين.
تعود ابنتها من المدرسة إلى بيتٍ هادئٍ إلا من دفءٍ محفوظٍ في الطعام المُعدّ منذ الليلة السابقة.
تتناول وجبتها وحدها، بينما أمها في عملها، بين جداولٍ مزدحمةٍ وأفكارٍ مشغولةٍ بالبيت أكثر من العمل.
وحين تعود في المساء، تحمل تعبها كحقيبةٍ ثقيلةٍ على كتفها، لكنها لا تضعها قبل أن تجلس قرب طفلتها.
تتابع دروسها بعيونٍ نصف نائمة، تُخفي رغبتها في الراحة خلف ابتسامةٍ حنونةٍ صادقة.
إنها تعرف أنّ ابنتها تحتاجها، وتعرف أيضًا أنها تحارب لتبقى قادرة على العطاء.
هي لا تهرب من أمومتها، بل تُمارسها بطريقتها الخاصة — بطريقة امرأةٍ تؤمن أن الحنان ليس فقط في الحضور، بل في السعي الدائم نحو الأمان.
ومع ذلك، لا يكفّ ضميرها عن ملاحقتها.
تحاسب نفسها على وجبةٍ تناولتها ابنتها وحدها، أو مكالمةٍ قصيرةٍ لم تُشبع الحنين.
تخاف أن تكبر طفلتها وهي لا تعرف دفء التفاصيل التي عاشتها هي في طفولتها.
لكن الزمن تغيّر، والحنان أيضًا تغيّر شكله دون أن يفقد جوهره.
الأم العاملة اليوم ليست أقلّ حنانًا، بل أكثر وجعًا، لأنها تُحبّ مرتين:
مرّةً وهي حاضرة، ومرّةً وهي بعيدة.
في المسافة بين الحنان والتعب، تنبت أشكال جديدة من الأمومة. لم تعد الأمومة تقاس بعدد الساعات التي تمضيها الأم في البيت، بل بقدرتها على البقاء حاضرةً في الغياب، ومؤثرةً رغم المسافة.
لم تعد القسوة في نبرة الصوت، بل في انطفاء القلب — وهذا ما لم تعرفه يومًا.
فهي رغم كل ما تواجهه، ما زالت تختار القرب، تختار السؤال، تختار العودة في نهاية اليوم مهما أثقلها التعب.
وفي لحظة صفاءٍ نادرة، تُدرك أن السؤال الذي يُؤرقها ليس عن القسوة، بل عن الذنب النبيل الذي يولده الحبّ الحقيقي. ذلك الإحساس الذي لا يُفارقها، يشعل في داخلها ضوءًا صغيرًا يمنعها من الاستسلام، ويذكّرها أن الأمومة ليست مثالية، بل استمرارٌ في المحاولة رغم التعب. هي تعرف أنها ليست الأم الكاملة، لكنها تعرف أيضًا أنها تحبّ بعمقٍ لا يُقاس بالوقت، بل بالمعنى الذي تزرعه في قلب ابنتها كل يوم.
وفي آخر الليل، حين ينام الجميع، تجلس في صمتٍ يشبه صلاةً طويلة بلا كلمات.
تتأمل وجه طفلتها النائم وتفكر: ربما لم أمنحها كل ما أرادت، لكنني منحتها ما استطعت — من وقتٍ مكسورٍ بالعمل، ومن حنانٍ مُرهقٍ لا يعرف الراحة. تُدرك أن الأمومة ليست تكرارًا لنسخٍ قديمة، بل فنّ ابتكار الحنان في زمنٍ صعب.
أنّ الأمهات لا يُقَسَّمن بين عاملات وربّات بيوت، بل بين من يُحببن، ومن يتخلّين — وهي من الفئة الأولى، مهما قال التعب غير ذلك.
الأم العاملة ليست قاسية، بل واقعية.
ليست غائبة، بل حاضرة بوجهٍ آخر، حضورٍ لا يُقاس بالزمن، بل بالأثر.
قد تترك وردةً على الطاولة بدل انتظارٍ عند الباب، وترسل رسالةً قصيرةً بدل عناقٍ طويل، لكن في كل ذلك حبٌّ مكتومٌ بحجم العالم، يتنفس من بين الشقوق ويكبر بصمتٍ لا يحتاج إلى شهود.
ثم تُطفئ الضوء، وتستلقي بهدوءٍ على أمل أن يحمل الغد قليلًا من الرحمة، لكنها تعرف، في أعماقها، أنّها ستنهض من جديد بالصبر ذاته، بالقلق ذاته، وبالحبّ ذاته الذي لا يشيخ ولا يُقاس، لكنه وحده يُبقيها حيّة.








اضافةتعليق
التعليقات