مسيرة الأربعين تلك الرحلة التي أصبحت مسيرة للتكامل الإنساني في ميادين الفضيلة، هل يمكن أن تخلق لنا جيلا يتصف بالتكامل؟
حينما يمتزج الهدى السماوي والأدب الإلهي في ذات شخص ذو هيبة يلفت العقل ويرشد الروح يسعى سائر الجسد ليشهد أنه الفريد الذي وحد مشارق الأرض ومغاربها، فترى وسامة سماوية تجتمع في بقعة تحمل من الجنة صفات حتى تكاد تختفي فيها كل المسميات بلا طائفية فلا يعرف من مد يديه أي يد يمسك أو أي بلد يطعم ومن سقى.
في كل عام توقد نار الثأر في صدور المحبين من شتى الأديان والطوائف زحفاً على الأقدام دون أن نستطيع التفريق بين طبقاتهم ومعتقداتهم يجمعهم حب إنسان خلق من نور وسار في صلب نور ليكون مقامه النور في أرضنا فاصطفانا الله لنكون له شيعة ونفدي زائريه دماً ونسقيهم كرماً وكرامة من أرضه التي نشأنا عليها حباً واطعمتنا امهاتنا منذ الصغر قصته التي كلما رويت علينا وكأنها تروى للمرة الأولى وتنهمر الدموع عشقاً والمعشوق يوسفي الطلة كريم تقي تخلى عن كل مايملك لوجه الله تعالى، وتجدنا من كل عام يقودنا الشوق لأيام الأربعين، حيث نستقبل زواره وكأنهم بقية أهله فنأثرهم على أنفسنا بمنهج الحسين.
عندما نقترب من شخصية الإمام الحسين (سلام الله عليه)، وعندما نحاول الغوص بعيدا في المعنى المركز العميق لثورته التي هي ثورة الإنسان المطلق في سبيل إبقاء كفة الصراع راجحة إلى جانب الخير بكل ما تحتويه هذه المفردة التي لطالما حمل فكرتها الإنسان في مراحل وجوده المتعاقبة.
إلا أنه لم يستطع أن يتطابق معها كليا، أو لنقل أنه لم يبذل من الجهود الصادقة في سبيل أن يبرهن على صدق تعلقه بالحسين على قلب الوجود رغم سيادة مظاهر النقيض على مفاصله الرئيسية حتى الآن، عندما نفكر بكل هذا ونتأمله مليا فإننا نجد أننا رغم إعجابنا بالكثير مما نكتبه أو نقوله حول الإمام الحسين (عليه السلام) إنما هو دون المستوى المطلوب من جوانب شتى.
ولست أعني أننا لا نختزن في أذهاننا وأعماقنا ذلك المعنى الذي قلما نعبر عنه، معنى لا يفقهه اللسان ولا تخطه الأقلام شيء أشبه بالنور يتوسط القلب والروح ويستنجد البصيرة لعلها تسعفه بالتعبير ولكن مامن جدوى فما نجد سوى أننا نقوم بكل مايبرهن على الحب دون الاستطاعة على تدوينه، وهو أن الحسين (ع) لا يمكن الحديث عنه من جانب واحد بصفته إماما للشيعة فقط، بل أنه شخصية استطالت على الزمان والمكان، وتجاوزت برمزيتها البعد الشيعي أو البعد الإسلامي أو البعد الجغرافي لتعانق بُعدها الكبير في حب واحترام الإنسان.
فنحن نختزن هذا المعنى في نفوسنا بشكل مؤكد، ونبتعد عنه في الكثير من تصرفاتنا، إلا أننا لا نفكر في أن نركز عليه ونضاعف الشعور به بين الناس، إن إحياء مراسيم أربعين الإمام الحسين (ع) هي فرصة من نوع خاص لتعزيز أواصر الأخوة والتقارب بين المسلمين في كل زمان في لقاء من مختلف أنحاء العالم بمنظر ربما لا يتكرر في أي مكان آخر.
لذلك فإن من يدخل في رحاب الفكر الحسيني ويستوعبه ويفهم أهدافه سوف يدخل مملكة السعادة من أوسع أبوابها، فالمأمول من المسلمين أن يستلهموا بالفكر الحسيني في تجديد الوحدة الإسلامية وتوجيه البوصلة الإنسانية بتعزيز النهج الإنساني لإنهاء الإضطراب الذي يعصف بالبشرية كلها، فالحسين رسالة ناطقة عبر الأجيال لا إنقطاع لحبالها ولا إخماد لنيرانها تلهج برسالة السماء وطريق النور والحق.
وكل من وقعت خطاه في طريق الحسين نال من النور شيئاً يغذي به النفس ويجعل الروح ترتقي، فمن دعاء طويل للإمام الصادق (عليه السلام) في سجوده نقتطف منه هذا المقطع ليتبين لنا مدى الإهتمام الذي أولوه (عليهم السلام) بهذه الشعيرة والدعوة إليها، يقول (عليه السلام): (اللهم اغفر لي ولإخواني وزوار قبر الحسين الذين أنفقوا أموالهم وأشخصوا أبدانهم رغبة في برنا ورجاءً لما عندك في صلتنا وسروراً أدخلوه على نبيك)، وعن النبي (صلى الله عليه وآله) وأهل البيت (عليهم السلام) أن الله عوض الحسين عن شهادته وتضحيته: (بأن كان الشفاء في تربته وجعل الأئمة من ذريته واستجابة الدعاء عند قبته).
إن زيارة الأربعين هي عنوان التعايش السلمي والتسامح المجتمعي، فالناس بمختلف جنسياتهم يتجهون نحو مكان واحد إلى كربلاء المقدسة لا تفرق بينهم الخلافات السياسية ولا القومية ولا الحزبية يعرفون أن هدفهم الأكبر هو ري الأرواح بالحب والتسامح بينهم.
في نموذج حي للتعاون تكسر فيه كل الحواجز بين الطبقات الإجتماعية تجد الأستاذ الجامعي يوزع الماء مع طفل صغير والشيخ العجوز مع الشباب كلهم يتسابقون على تقديم الخدمة للزوار وغير الزوار وعلى طول شهري محرم وصفر تطرق أبواب البيوت لتقديم الطعام المجاني تعبيرا عن حب الحسين والتزاما بنهجه وثورته التي أراد بها إعادة الأمة إلى مسارها الصحيح، فهذه الممارسات والتقاليد الإجتماعية التي نراها في هذه المدة الزمنية القصيرة تشد المجتمع إلى بعضه وترتقي به إلى حيث الأهداف السامية للدين الإسلامي.
اضافةتعليق
التعليقات