بالأمس وجدت دموعي تنهال وأنا أتسوق عبر موقع إلكتروني، لم أخطط لأن أبكي أثناء التسوق، لكنني كنتُ أشعر بأني مسجونة، بل كنتُ مسجونة فعلاً.
قرابة خمسون يوماً منذ بدء العدوان على غزة، أوضاع عصيبة، لا ماء ولا كهرباء ولا وقود، وشهداء بالجملة، وجرحى بإعاقات مستديمة، وقصص هي أفظع من أن تحدث في فيلم حتى، ولكنها حدثت بالجملة في هذه المدة القصيرة وعلى أرض الواقع ونحن شاهدون، ولهذا يعتصر القلب ألماً.
هذه المدة القصيرة جعلتني أرى عالماً آخراً، ولستُ الوحيدة في ذلك، الجزء الأعظم من ثمانية مليار إنسان بدء بالشك بكل الأفكار التي يعتنقها وفحص سلوكياته التي بُرمج عليها، لقد طُحن ما تبقى من العالم الوردي ذو القيم البراقة، وانقشعت الحقيقة الذهبية التي أحالت كل وردي رمادياً متسخاً، وكُشف زيف العالم المتقدم، وسُميّة القيم التي زرعها حتى في شعوبه ليتحكم بهم.
ولأننا معدومو الحيلة في رفع الظلم عن من هم تحت نيران القصف، بدأنا بابتكار طرق مختلفة للدعم والتضامن وكان من بينها المقاطعة.
نؤمن إيماناً راسخاً بأن المقاطعة أداة ضغط، وأداة قوة، يعلو صوتها بين صفوف لا تعرف إلا لغة المال، فتعلو المادة على الدين والأخلاق والقانون والإنسان في موازينهم.
قاطعتُ الكثير من المنتجات، كل ما لم أجد له بديلاً استغنيت عنه، الحياة ما زالت ممكنة.
ثم جاء الوقت الذي أردتُ فيه شراء منتجات متنوعة أكثر، هناك قائمة طويلة من الاحتياجات، وثلاثة مواقع فحص موثوقة للتأكد من أن هذا المنتج غير داعم، علامة بعد علامة نكتشف إنها داعمة، علامة بعد علامة تُحذف من قائمة المشتريات، ثم وجدت نفسي محصورة في خيارات محددة جداً، حينها انبثقت أفكار جمة، فبكيت.
لم أبكي لأن ليس هناك ما أشتريه، فقد حصلت على منتجات ممتازة في النهاية، ولكن بكيت لأن أموالنا ولسنوات ذهبت لمن يرانا حيوانات بشرية، ولأننا مضطرون لاختيار شركات أجنبية بكل الأحوال فلا تصنيع محلي، ولأننا مقتنعون بأن المنتج الأجنبي أفضل رغم أنه يحوي ما يضر قطعاً، ولأنهم يأخذون خيراتنا وخيرات تلك الشعوب الغنية التي دمروها وأسموها عالماً ثالثاً ثم يعيدون بيعها لنا مدنسة بالسموم بأثمان غالية، ولأننا استهلكنا بضائعهم، عاداتهم الغذائية، أساليب حياتهم، علومهم الموجهة خدمةً لأهدافهم، وأفكارهم، لقد أصبحنا نسخاً مقلدة من حضارة ودول غير مستقرة قبيحة قائمة على الظلم السافر.
نحن بهذا العجز، بهذا الهوان، راضخون للاحتلال، بل نبجله، ونتمسك به إن اختار المحتل إخلاء سبيلنا، راضون بأن يستبيحنا عقلاً وقلباً وروحاً ومحفظةً وموارداً وأرضاً.
الاحتلال غشاء رقيق فوق جلودنا، يغطي تلافيف عقولنا جميعاً دون استثناء، ويقودنا معصوبي الأعين نحو هلاكنا المحتوم، فإن لم ننهض من قبورنا الآن في هذه اللحظة التأريخية التي آمن فيها الغرب شعباً بقضايانا العادلة، لن نستطيع النهوض إلا بعد مرور مئة عام أخرى على الأرجح، وحتى ذلك الحين سنخسر ما تبقى منا.
اضافةتعليق
التعليقات