ترتسم لائحة الوصفات الأربع أمامنا حكمة جديدة ونمط جديد من تعلم الحرية. وهي أن الشرخ الرقمي سيظل قائماً، بالتأكيد. إلا أن انعدام التكافؤ الآتي سيكون ذا طبيعة أخرى إذ لن نكون بصدد الاتصال وإنما بصدد عدم الاتصال ولن يكون الوصول إلى الموسيقى، وإنما إلى الصمت، وليس إلى المحادثة، وإنما إلى التأمل، وليس إلى المعلومة المباشرة، وإنما إلى التفكير واسع المدى.
وتتكاثر ندوات التخلص من الإدمان التقني. لقد تغيرت طبيعة الخلوات الروحية في دور العبادة: إذ كان يتعين الهروب من العالم للقاء الإله، بينما يتعين من الآن فصاعداً الهروب من المثيرات الإلكترونية بغية استعادة ذواتنا بكل بساطة؛ بمعنى أن ننقطع عن الشبكات، كي نتمكن أخيراً من الوجود في العالم من جديد ولكن الرهان لا يتمثل في الاختفاء، أو في رفض إمكانات المجتمع الرقمي الخارقة للعادة. إذ يتعين علينا ببساطة، أن نفهم أن الحرية تمارس من خلال السيطرة على الذات وأن هذه السيطرة لا تتطلب فرط التقشف، وإنما بكل بساطة الاعتدال. هذه كلها قواعد شخصية سهلة الوضع ولكنها صعبة التطبيق، وأنشطة وظيفية يصعب فرضها، ولكن يسهل استعمالها.
اللجوء إلى الملاذ:
أعلن بول فاليري عن مستقبل يدعي نفيه، كي يكون المرء حرّاً، بناء حواجز معزولة لا تدخلها الأمواج، وذلك للتعالي على تأثيرات الجمهرة الشعبية والمستجدات، والسذاجة. أصبحت نبوءة هذا الكاتب ضرورة حضارية. إذ تندرج إقامة مناطق خارج الاتصال (التغطية) على غرار مناطق غير المدخنين في مجال الصحة العامة.
يجب عزل المدارس وأماكن المعرفة، والصلاة والسجالات، والاجتماعات أي: أماكن التلقي، والاحتفال والتبادل، تبعاً لثلاثية إيمانويل ليفيناس الشهيرة، من خلال قطع التبعية الرقمية وهو ما فهمه جيّداً مقاولو السيليكون فالي، الذين يرسلون أولادهم إلى مؤسسات تعليمية خالية من التقنيات الرقمية.
أتصور بسهولة عدداً كبيراً من الأماكن خارج الاتصال، حيث تشير لافتة بسيطة إلى أنه ليس بالإمكان جعل إغراءات الشبكة تقطع علينا ما نعيشه سوياً. إنها مجرد قاعدة في الآداب العامة، أو أن تعلم الأسرة ترك الآلة بعيداً قبل تناول وجبة الطعام، أو لحظات التشارك الاجتماعي. ففي نهاية المطاف إن شاشة المحمول هي شاشة اللحظات الحميمة ومن الطبيعي أن لا نفرضها على من يحيطون بنا.
لقد أصبح حظر المحمول في المدرسة أمراً واقعاً. فجامعة ستانفورد التي احتضنت ولادة الرقمي، والمنصات والمجتمع الموصول، تفرض، من الآن فصاعداً، غياب المحمول خلال الدروس، وهي بصدد فرض غياب الحواسيب بشكل متصاعد. ويتمثل الرهان في أن نجعل الأمر ميسوراً على الصعيد التقني، حيث سيدمج في هذه الحالة في عمل الشبكات ذاتها، حتى لو تعارض ذلك مع مصلحتها الاقتصادية المباشرة: لقد تعين على فيسبوك الاعتراف في العام 2018 باستمراره في شفط بيانات المستخدمين حتى عندما لا يكون هؤلاء موصولين. إلا أن تأثير المستخدمين يمكن أن يكون حاسماً، في هذا المجال.
الوقاية:
ما ينطبق على المكان ينطبق هو ذاته على الزمن. سواء أتكلمنا عن إمكانية أخذ استراحة Take a break)) أو عن استرداد كياناتنا فإن الأمر يمرّ عبر قدرتنا على تحديد فترات من دون اتصال، ومن دون تفاعل اجتماعي رقمي على وجه التحديد. ينطبق ذلك على فترات الليل بالطبع، وكذلك على اللحظات الحميمة الشخصية، والعائلية أو مع الأصدقاء. تحضرني ذكرى ملتقى مهني طلب خلاله من كل مشارك أن يضع هاتفه المحمول في سلة خارج قاعة الملتقى قبل الجلسة. لقد أصبح مشهداً مألوفاً، يعيشه آلاف الناس كل يوم، إلا أنه فترة صعبة: إذ حاول كل واحد وأنا أولهم أن يجد سبباً وجيهاً لكيلا يقوم بتسليم هاتفه، استعمال هكذا نوع من السلال، وإجراءات تمرر فقط المخابرات الهاتفية مع منع الاتصال، يتعين أن المألوف مستقبلاً هل هو من باب الحُلم تصور أنماط بسيطة من تشغيل هذه الأجهزة، تُضاف إلى هواتفنا المحمولة، وتقترح على غرار خاصية وضع الطيران نماذج من الشفاء من الإدمان، تتيح لنا أن لا يصبح من الأمور نظل تحت وطأة الاستنفار للحظات؟ ليس من السذاجة في شيء تصور فترات أخذ فرصة لعدة أيام من دون اتصال اجتماعي على الشبكة.
وكذلك ليس من قبيل الخرافة التأكيد على حاجة الأطفال والمراهقين أكثر من سواهم بما لا شك فيه إلى هذا النوع من فترات الاستراحة. يتعين بالتأكيد أن تحسم الشبكات الاجتماعية أمرها على إدماج القدرة على إمكانية تركها خلال بضعة أيام أو حتى عدة أسابيع، على واجهات المستخدم الخاصة بها.
إذ يمكن أن تشجع فترات الاستراحة هذه والعطل من قبل واجهات المستخدم ذاتها، لمدة يومين في الأسبوع أو شهرين في السنة، على سبيل المثال: «صباح الخير، يبدو لنا أنك كنت حاضراً بشدة على فيسبوك خلال الأيام الأخيرة. ماذا لو توقفنا عن التفاعل لمدة عدة أيام؟ هل أنت موافق؟ دعني أخطر أصدقاءك بذلك». وهو ما يتناقض بشدة مع ما يحدث حالياً عندما يُخَفِّض المستخدم مستوى استخدامه للمنصات، حتى ولو لفترة وجيزة. سيقصف عندها بالرسائل الداعية إلى التواصل (ما الذي يجري؟)، وكذلك بنداءات العودة إلى الانضباط (هل تعلم مقدار ما أنت بصدد تفويته عند أصدقائك؟)، ووصولاً إلى تهديدات محو تقني (أنت معرّض لخسارة تفضيلاتك)، هذا في حين أن البيانات الفردية يستمر تخزينها واستعمالها، وتحديثها.
الشرح:
يمكن للشبكات الاجتماعية، التي دخلت إلى المدارس أن تخرج منها كي تستبدل بتعلم حسن استعمالها بحيث تتم الحماية الذاتية من آثارها الضارّة، ومن آليات الإدمان، وتعلم وسائل الحرب عليها، وعلى منطق التداول الواسع والسريع للرسائل وسواها بين المستخدمين. يتيح عرض المدى المستمر بين ما يمر على الشبكة، وما يحدث على ما يمكن تسميته (الحياة الواقعية، فهم أن ما يبدو افتراضياً من قبيل المزاح، أو التنمر، إلخ...) لن يدوم طويلاً. إبطاء الوتيرة. تتيح استعادة امتلاك الوقت، ولحظات الصمت من دون انقطاع، ومن دون مثيرات إلكترونية، بدء إطلاق حلقة تتسم بالفضيلة. إذ إن مبادرات من قبيل Si on lisait) SOL: وماذا لو قرأنا)، التي تشجع على نصف ساعة يومية من القراءة الإلزامية في المدرسة، تقوم بمهمة الخروج من طبيعتها التجريبية، كي تتحول إلى أدوات جماعية. ينبني نموذج مجتمعنا بالتوجه نحو التسارع، ولذلك فكل إجراء لإبطاء الوتيرة، وفي أي مجال كان سواء في المعلومات، ووسائل الإعلام والمحادثات على الشبكة أو على ما عداها، وحتى إبطاء وتيرة الاستهلاك ذاته، تشكل كلها أدوات مقاومة لتيار التسارع وهو في الآن عينه إجراء تحرري.
اضافةتعليق
التعليقات