كل ما يمس أقراننا من البشر يعنينا من باب الإنسانية، وكل بؤس يحصل في الدنيا يؤذينا، وكل ما يصيب المسلمين من ظلم ومعاناة يؤلمنا ويوجع قلوبنا، وأي فاجعة تنزل على من ينطق لغة الضاد تحز في نفوسنا، فبإسم الإنسانية والدين والعروبة لابد أن نرفض كل ما يصيب اليمن اليوم وشعبه الطيب وحضارته العريقة وتاريخه القديم، من حرب وظلم وأمراض ومجاعة..
فأهل اليمن، يرزحون منذ ثلاث سنوات تحت معارك دمرت الحجر والمدر، والآن شبح المجاعة يخيم على مناطق كبيرة منه، وتنقل صحيفة "ديلي تلغراف" عن جمعية "أنقذوا الأطفال" الخيرية قولها أن 85 ألف طفل تقل أعمارهم عن الخامسة قضوا جوعا منذ بدء الحرب في اليمن 2015، والحرب أدت الى مقتل نحو 10 آلاف شخص، وحصيلة الجرحى جراء المعارك أيضا في ازدياد مستمر. هذا مع الصعب تحديد عدد الوفيات بدقة، فعاملو الإغاثة يقولون أن العديد من حالات الوفاة لايتم الابلاغ عنها.
كما تقول منظمة الصحة العالمية أن 50% فقط من المنشآت الطبية في اليمن مازالت تعمل، وأنه على الرغم من اتفاق الجانبين مبدئيا على وقف إطلاق النار، يستمر التحالف السعودي الاماراتي بشن هجمات جوية متفرقة، ومدينة الحديدة المطلة على البحر الأحمر والتي نحو 80% من السلع التاجرية والمعونات الانسانية تمر من خلالها تعاني من جراء القتال الحاصل، فضلا عن إغلاق عمل الكثير من السفارات مؤقتا وسحب الطاقم الدبلوماسي منها.
وقالت أفريل فاريس، وهي ممرضة ايرلندية تعمل في الصليب الأحمر في اليمن للصحيفة إن "فريقها عثر على عدد من الأسر التي التجأت لمدرسة مهجورة كانوا يتناولون القليل من الأرز أو القليل من الخبز أو الطحين الممزوج بالماء مرة واحدة في اليوم، لم يكن لديهم فراش أو حتى حصر للنوم"، مضيفة: "في الواقع لم يكن لديهم شيء على الاطلاق".
وتحاول الأمم المتحدة انعاش محادثات السلام لوقف القتال التي راح ضحيتها الآلاف ويواجه الملايين بسببها خطر أسوأ مجاعة في التاريخ. وفي الشهر الماضي حذرت الأمم المتحدة من أن يصل الى 14 مليون يمني باتوا على حافة المجاعة، بعد ارتفاع أسعار المواد الغذائية وانخفاض قيمة العملة اليمنية نتيجة للحروب الأهلية.
الأرقام التي ذكرت أعلاه، قد نمر عليها مرور الكرام مع القليل من الهمّ الذي يعتري القلب، ونُكمل حياتنا، فما باليد حيلة، والذي فينا يكفينا كما يُقال، فما الذي نستطيع فعله لأولئك المستضعفين ومصيرهم بين يدي سياسيين ودول كبرى رزحنا تحت ظلمها ولازلنا وقبل إخوتنا في اليمن؟!
يجيبنا قول الرسول (صلى الله عليه وآله): "من أصبح لا يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم"، وفي حديث آخر: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد، اذا اشتكى عضو منه، تداعى سائره بالحمى والسهر".
وأمير المؤمنين عليه السلام يقول: "الناس صنفان إما اخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق".
ونصوص إسلامية عديدة تحض على المواساة والاهتمام والتعاطف ومراعاة حقوق الأخوّة وحتى مع الذين لاتربطنا بهم رابطة، فمن الأدعية المعروفة التي تلهج ألسنتنا بذكرها من قبيل: اللهم شاف كل مريض، فرّج عن كل مكروب، اقض حاجة كل محتاج..
ف "كل" تشمل جميع الناس وليس فقط المسلمين أو غيرهم، فكيف بالأقربين الذين هم أولى بالمعروف؟!
وصحيح أننا لا نقوى على تغيير معادلات الحرب المستعرة في اليمن، ولكن بإمكاننا إستخدام وسائل ضغط إن آمنّا بجدواها أولاً واستخدمناها في مكانها المؤثّر ودعونا الجميع لتوظيفها، وبالتالي بعض الموازين ستتغير ولو قليلا..
"فمن رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الايمان"، فإخبار الناس وتذكيرهم بما يحصل في اليمن هو ردة فعل صائبة وصحوة ضمير جميلة وإن لم تلقَ بالا واهتماما، وذلك عن طريق إستثمار الصورة والصوت والكتابة في العالم الواقعي والافتراضي، وعن طريق مسيرات ووقفات احتجاجية وتضامنية وتبرعات، كلها تصب في مصب المواساة والإهتمام والتوّجع الحقيقي للجرائم التي تحصل هناك..
فمثلما، أنت وأقرانك تستحق أن تعيش في بلدٍ مستقر وأن تكون لديك حياة آمنة وأن تحصل على مياه وطعام صحي ونظيف ومستشفى جيد، فكل يمني يستحق ذلك أيضا..
هناك معجم واسع للمواساة وأخدود مشترك كبير يجعلك جزء من عالم الألم والحزن والظلم الذي يجب أن تشاطره مع الآخر، فقط عليك أن تنسى ذاتك الصغيرة قليلا وترى ما الذي يحدث خارج عالمك الضيق، أن يرتعش قلبك وتندى عينيك لأولئك الأطفال الذين يموتون أمام أعين أمهاتهم وآبائهم مرضا وجوعا دون أن يكون بمقدورهم فعل أي شيء!.
ربما ستقول، وانا أيضا ليس بمقدوري فعل شيء!، صحيح، لكنك إن وضعت نفسك مكان هذه الأم أو هذا الأب المسكين للحظة واحدة سيحترق قلبك وستدعو له بكل وجودك بالفرج لهم، والدعاء لأخيك بظهر الغيب وبحب وحرارة يؤثّر في الأقدار لامحالة..
فنحن نعاني اليوم من هذا البرود القلبي تجاه الآخرين والتعاطف هو أضعف الإيمان الذي يطلبه الله منّا أمام كل منكر نراه فكيف بجرائم وكوارث تقع على أرض عربية مسلمة!.
رحم الله الشاعر محمود درويش عندما أنشد قصيدته "فكر بغيرك" قائلا:
"وأنت تعد فطورك، فكر بغيرك.. لاتنس قوت الحمام
وأنت تخوض حروبك، فكر بغيرك.. لاتنس من يطلبون السلام
وأنت تسدد فاتورة الماء، فكر بغيرك.. من يرضعون الغمام
وانت تعود الى البيت، بيتك، فكر بغيرك.. لاتنس شعب الخيام
وانت تنام وتُحصي الكواكب، فكر بغيرك.. ثمة من لم يجد حيزاً للمنام"..
وأنت تلبس عقيق يماني وترى خنجراً كان ولايزال رفيق ودليل رجولة لليمني، فكر باليمن ولاتنسَ شعبه الذي كان يسمى بالسعيد قبلا واليوم يحطم أرجاء أرضه ويسرق بهجة أطفاله طائرات حربية مملوءة حقدا وغلاّ، وتمزقه حرب غاشمة ويخذله العرب وقادته الخونة.
فلندعو لهم بالفرج والنصر وانتهاء الحرب الغشومة، واللعنة على كل من شارك في مؤامرة قتله وتدميره.. ويبقى للظلم جولة ولكن للحق جولات!.
اضافةتعليق
التعليقات