الحياة مسرح يجرب فيه الإنسان عقله وشعوره وعاطفته وحسه وذوقه، فيهتدي كل يوم إلى أمور جديدة؛ لأن الحياة غير ثابتة.. ففي كلّ عصر مذاهب جديدة في كلّ ناحية من نواحي الفكر، في الفلسفة والأدب والعلم والاجتماع والاقتصاد وما شابه ذلك، في كل عصر حركات جديدة وأزياء جديدة ....
وعلى هذا الشكل تتسلسل آثار العقول، فيقدم كل عصر نتائج ما يهتدي إليه إلى العصر الذي يليه. ويزيد كل عصر في هذه النتائج بقدر ما يتيسر له من العلوم والتجارب.
قد يكون من هذه العلوم والتجارب ما يحتاج إلى تعديل. فمن عصر إلى عصر يظهر علم جديد يعفى على آثار علم قديم، وتظهر تجارب حديثة تبطل تجارب عتيقة. فالإنسان يحتاج من حين إلى آخر إلى تعديل ما تعلمه أو جربه، والخطأ كل الخطأ في الثبوت على علوم باطلة أو تجارب فاسدة، والذي يفيد البشرية إنما هي هذه التعديلات التي ندخلها على آرائنا من حين إلى آخر .
والآن نصل إلى جوهر السؤال: ماذا علمتني الحياة؟ أو ماذا تعلمت من الحياة؟
قد يتعلم المرء في حياته أمورًا لا سبيل إلى إحصائها في ورقة أو ورقتين.. ولكن لا نرى العبرة بكثرة علومه، وإنما نرى العبرة بمقدار انتفاعه بهذه العلوم. فإذا ذهبت إلى الإتيان على ذكر ما تعلمته في حياتي، طال على المجال.
وقد يكون الذي تعلمته أو جربته قد تعلمه غيري أو جربه، فالمهم على ما أعتقد أن يذكر الإنسان ما انتفع به من علومه وتجاربه في حياته.
لقد قرأت بعض الكتب ووقفت على بعض التراجم.. فإذا كنت استعظمت رجلًا من رجالنا في قديم الدهور، فقد استعظمت رجلًا قالوا فيه أنه إمام في العلم، رأس في الزهد عارف بالفقه، يصير بالأحكام، حافظ للحديث مميز لعلمه، قيم بالأدب، جماع للغة. هذا الرجل إنما هو إبراهيم بن إسحق الحربي، عاش في القرن الثالث. وعلى الرغم من الأمور التي حصل عليها، لم تكن له شهرة كشهرة عظماء أدباءنا أو علمائنا .
قرأت ترجمته وعسى أن أنتفع بخلق من أخلاقه.. كان لا يشكو إلى أمه ولا إلى أخته ولا إلى امرأته ولا إلى بناته حمى يصاب بها. كان به صداع بأحد جانبي رأسه خمسا وأربعين سنة ما أخبر بذلك أحدًا، وأفنى من عمره ثلاثين سنة برغيف في اليوم والليلة. ولو أردت الإتيان على هذا النوع من شظف عيشه وصبره، لذكرت الشيء الكثير.. وإنما المهم أن نعرف هذه الحكمة التي انتقلت إلينا على لسانه، وهي الرجل الحق هو الذي يدخل غمه على نفسه، ولا يغم عياله ما أظن أني أخرج عن موضوعي إذا استشهدت بسيرة عظيم من عظمائنا؛ لأن أصل السؤال ماذا علمتني الحياة؟ فإذا قلبت السؤال، قلت: ماذا علمني إبراهيم بن إسحق الحربي؟!... والنتيجة واحدة.
إنا نعيش في عصر غلبت فيه المادة على كلّ شيء.. فكان لهذه الغلبة عواقب وخيمة في أخلاقنا واجتماعياتنا.. في حياتنا كلها، فالعصر الذي نعيش فيه إنما هو عصر المادة، فكل شيء يقاس بها. لقد ضعفت قيمة الروحانيات حتى كادت تموت، لقد أفسدت هذه المادية سياستنا وأدبنا وعلمنا وأوضاعنا الاجتماعية بحذافيرها ولا سيما الزواج..
فإذا كان من الواجب على رجال الفكر أن يبينوا في هذه الأيام ماذا علمتهم الحياة حتى تنتفع البشرية بآرائهم، فمن الواجب علي أن أعترف بأن الذي علمني إياه إبراهيم بن إسحق الحربي في احتمال الحياة والصبر على مکارهها إنما هو شيء عظيم.
ولست أرى في هذا التعليم أثر زهد يقعد بصاحبه عن السعي في الحياة ويميل به إلى الكسل والخمول، وإنما أرى فيه جوًا روحانيًا يُقوى سعي صاحبه ويشد آماله.. فالرجل الذي يدخل غمه على نفسه ولا يغم عياله، إنما هو رجل يخلق لنفسه أفقًا روحانيًا يعيش في ظلاله في كثير من الهدوء والعالم حوله مضطرب، وفي كثير من الراحة والدنيا حوله تعبه، وفي كثير من القناعة والجشع حوله هائج مائج.
ويستطيع في هذا الأفق الروحاني الهادئ المستريح القانع أن يعمل كثيرًا، وأن ينتج كثيرًا، وأن تنتفع البشرية بعمله وإنتاجه!
اضافةتعليق
التعليقات