يتطلب فهم أسباب صعوبة تغير المعتقدات القوية دراسة ما الذي يجعلها قوية أو ضعيفة، مثل الذات المرسومة؛ تأتي قوة المعتقد من قوة الروابط بين مكوناته، وهذه المكونات يمثلها نشاط إطلاق الإشارات من قبل الخلايا العصبية التي تستقبل الوارد، سواء من الخلايا العصبية، ومن الخلايا الأخرى أو من وسائط التفاعلات العديدة بين الدماغ وجسمه، ومع العالم الخارجي تنتقل الإشارات العصبية من المستقبلات الحسية عبر دماغنا إلى مراكز تتحكم إشاراتها في سلوك عضلاتنا؛ فالنموذج التقليدي والأكثر دراسة بالنسبة إلى علماء الأعصاب، هو التنبيه البصري الذي يحرض رد فعل تعكس حبة التفاح الضوء الذي يسقط على الشبكية في عيني حواء، فتتولد إشارات ينقلها العصب البصري، وتعالج هذه الإشارات في مناطق في الدماغ وتفسر على أنها تمثل تفاحة وليست مجرد شكل ملون، وترسل إلى المناطق الحركية التي ترسل بدورها إشارات إلى العضلات، وهو ما يؤدي إلى امتداد يد حواء إلى التفاحة.
ولكن هناك أشياء تتعلق بالإشارات الواردة والصادرة أكثر بكثير مما يوحي به هذا المثال، وقد تصل الإشارات الواردة إلى الدماغ من أعضاء الحس الخارجية (مثل العينين)، أو من حساسات داخلية (مثل تلك التي تحافظ على التوازن أو تخبرنا أين وضعنا أذرعنا وأرجلنا)، أو من مصادر أكثر انتشارًا مثل مجرى الدم.
يمكن أن تصل الهرمونات، أو العقاقير، أو المواد الغذائية، أو المواد الكيميائية التي يطلقها جهازنا المناعي إلى الوسط خارج الخلوي الذي تسبح به الخلايا العصبية، وتؤثر من ثَم في نشاط الدماغ. وبطريقة مماثلة، يمكن أن تنظم الإشارات الصادرة عضلات أطرافنا، أو العضلات العميقة التي تحيط بالأعضاء مثل الأمعاء والرئتين، أو الأعضاء نفسها مباشرة عبر الأعصاب التي تتفرع في هذه الأعضاء، أو بصورة غير مباشرة بإطلاق مواد كيميائية مثل هرمون النمو من الدماغ.
بعبارة أخرى، يمكن أن تتكون الواردات والصادرات كلتاهما من مواد كيميائية ترتبط بالمستقبلات على الخلايا العصبية ومن ثم تؤثر فيها، أو من إشارات عصبية - هي نفسها مرتبطة بالكيمياء تحملها النواقل العصبية، تعني قدرة الخلايا العصبية هذه على التأثُر ليس بالنواقل العصبية فحسب بل أيضًا بالجزيئات الأخرى في بيئتها، أن الارتباطات بين الخلايا العصبية، ومن ثم الشبكات المعرفية (المعتقدات، وخطط العمل، وغير ذلك)، قد تتغير بناءً على حالة الجسم، فضلًا عن الإشارات من العالم.
العواطف هي تعابير عن إشارات واردة من الجسم، لكن حالات الجسم الأقل جدارة بأن تلاحظ قد يكون لها تأثير أيضًا، أما المثال على ذلك فهو العلاقة بين هرمونات التوتر والمعرفة؛ إذ تتفاوت معدلات الهرمونات القشرية السكرية التي تؤثر في إحساسات حالات التوتر والقدرة على أداء المهمات المعقدة - على مدى اليوم بطرائق تختلف بين الأشخاص؛ فيكون بعض الناس (طيور القبرة) في أفضل حالاتهم في الصباح، في حين ينشط بعضهم الآخر (البوم) في وقت متأخر من اليوم، وقد أظهرت التجارب أنه إذا أجبر الأشخاص من نمط (البوم) على إصدار أحكام اجتماعية في الصباح الباكر، فسيكونون أكثر احتمالا لأن يعتمدوا على صور نمطية وأحكام مسبقة مما لو كانت الأحكام تصدر بعد الظهر أو في المساء، وبالمقابل يصدر الأشخاص من نمط (طيور القبرة) التي تستيقظ باكرًا أحكامًا مدروسة أكثر في الصباح وأحكامًا مسبقة أكثر في المساء بعبارة أخرى يمكن أن تختلف المعتقدات التي نستدعيها (ومن ثم نعززها في موقف ما، حسب مستويات الهرمونات في مجاري دمائنا).
تعتمد الروابط بين الخلايا العصبية على توقيت الإشارات الواردة؛ فكما لوحظ سابقًا، يجب تنشيط الخلايا العصبية معًا إذا ما أريد تعزيز الروابط بينها، وتعتمد الروابط أيضًا على تكرار وتمايز الإشارات الواردة التي تستقبلها تلك الخلايا العصبية (أو أهميتها البارزة)، والأهمية البارزة هي أمر نسبي، وليست كمية مطلقة، فلا تطلق الخلايا العصبية التي ترسل إشارات استجابة لضوء ساطع إشارة بالسطوع المطلق للمؤثر بالطريقة نفسها التي يعمل فيها مقياس الضوء الذي يستعمله المصور الفوتوغرافي، وبدلا من ذلك فإنها تستخدم ارتباطاتها العديدة مع الخلايا العصبية المجاورة لإرسال إشارة عن السطوع النسبي؛ الفارق بين الضوء وخلفيته.
كلما كان الفرق أو التباين بينهما أكبر؛ كانت الأهمية البارزة للمؤثر أكبر، وهذا ما يتيح لأدمغتنا مرونة كبيرة بحيث يمكننا قراءة نص باهت في مخطوطة قديمة في مكتبة مظلمة، أو تصفح رواية ونحن مستلقون تحت أشعة شمس الظهيرة، ويمكن أيضًا أن نقع فريسة – وعادة نقع لمندوبي المبيعات الذين يستغلون التباين يعطي روبرت شيالديني Robert Cialdini مثالاً الملابس: افترض أن رجلا دخل محل ملابس رجالية على الطراز الحديث، وقال إنه يريد شراء ثوب من ثلاث قطع وسترة.
إذا كنت مندوب مبيعات، فما الذي يمكن أن تعرضه عليه أولا لتجعله ينفق أكبر قدر من المال؟ تعطي محلات الملابس تعليمات لموظفي المبيعات ببيع القطع الغالية أولا. قد يقترح المنطق السليم عكس ذلك؛ لأنه إذا أنفق رجـل كمية كبيرة من المال لشراء بذلة، فقد يتردد في إنفاق المزيد من المال لشراء السترة؛ لكن تجار الملابس يعرفون أفضل؛ فهم يتصرفون وفقًا لما يوحي به مبدأ التباين بيع البذلة أولا؛ لأنه عندما يحين وقت النظر إلى السترات، حتى الغالية منها لن تبدو أسعارها عالية بالمقارنة.
يخضع التكرار والأهمية البارزة، والتوقيت، وما يوجد في الوسط خارج الخلوي... وقوى تشابكاتنا العصبية - مثل ذواتنا - للعديد من التأثيرات، وأحد العوامل الذي لم أذكره بعد هو التقنية؛ أي المحاولات الاصطناعية لتغيير القوى التشابكية.
لأن الشبكات المعرفية الضعيفة تميل إلى التغير أكثر من تلك التي ترسخت بقوة. التشابه الآخر بين الشبكات المعرفية والبشر هو أن كليهما يعيش في مجتمعات، وتتأثر الشبكات المعرفية بصورة كبيرة ببيئاتها، فيعتمد تنشيطها – بالتنبيهات أو الشبكات المعرفية الأخرى على ما حولها. إن هذا الميل النسبي إلى أن يؤثر كل شيء في كل شيء آخر، هو الذي يجعل العلوم عامة، وعلوم الدماغ خاصة معقدة بصورة شيطانية)، انظر إلى عمل فني غير مكتمل، لوحة أو سيمفونية، لتر بعض المناطق مفصلة بدقة فيها كثافة عالية من جزيئات الطلاء أو العلامات الموسيقية، في حين يكون بعضها الآخر قد رسم بمخطط (قليل من الطلاء، أو مجرد قليل من أجزاء الأوركسترا).
تحدد الكثافة في المشهد المعرفي بعدد المعتقدات ذات الصلة، ففي المناطق عالية الكثافة مثلًا في دماغي، تلك المرتبطة بعلم الأعصاب يكون المشهد محددًا جيدا، مع شبكات معرفية متجمعة ومتداخلة بكثافة تقدم كثيرًا من التفاصيل، أما في المناطق منخفضة الكثافة (مثل تلك التي تحوي معتقدات حول ثعابين البحر الكهربائية) فقليل فقط من الشبكات المعرفية ترسم خطوطًا عامة في تلك المنطقة.
الكثافة مهمة لأنه عند وصول الإشارات الواردة إلى شبكة معرفية فقد تنشط أيضًا الشبكات المعرفية المجاورة في المشهد المعرفي، وكلما كانت تلك الشبكات المجاورة أقرب، ازداد احتمال تنشيطها، وكلما ازداد عدد مرات التفعيل المشترك للشبكات المعرفية مع جاراتها، ازداد التشابه في قوى الارتباط فيها.
وكما هي المشاهد الطبيعية حيث تكون الميول عادة متدرجة (المنحدرات الخفيفة والتلال المتدرجة، والميول الهادئة أكثر عددا من الجــروف الصخرية في كوكب أرضنا الممهد)، كذلـك فـي المشهد المعرفي، تتغير الميول في قوة الترابط بدرجات صغيرة.
من المرجح وجود فروق كبيرة بين الروابط المتجاورة في المناطق منخفضة الكثافة، حيث لم يُبين عدد كبير من المعتقدات. هذه هي الزوايا المظلمة والأقل اكتشافا في عقولنا، وهي الأماكن التي ليس فيها للتمهيد العقلي أثر كبير.
اضافةتعليق
التعليقات