قبل أن يسدل الفجر ستاره في موسم الشتاء البارد آنذاك، كنت أراقب أبي من تحت الغطاء وهو يجهز نفسه للخروج حاملا معه طبلته الكبيرة التي اعتاد أن يجهزها قبل ليلة مضت ليمارس عادته السنوية التي ورثها عن أبيه وهي القرع على تلك الطبلة لإيقاظ الصائمين في وقت السحر، حتى أصبحنا معروفين في حينا الصغير بيت (أبو الدمام) وليس بيت أبو ابراهيم..
ابراهيم الابن الأكبر للحاج صباح بعد وفاة والده لبى وصية أبيه بأن يقرع طبلة أجداده في الشهر الفضيل حيث توارثت هذه العادة أجيال من العائلة، في بداية الأمر لم يكن ابراهيم مرتاحا لممارسة هذه العادة التي يرى أنها اندثرت بوجود الهواتف النقالة، حدثنا قائلا: أعترف بأني كنت خجلا من خروجي في وقت السحر وقرع الطبلة بصوت عال لإيقاظ الجيران خشيت أن يفزعهم صوت الطبلة وأقلق نومهم وراحتهم اضافة إلى وجود وسائل بديلة يمكن أن تنبههم لوقت السحر إن رغبوا بذلك فلما أسعى أنا إلى ارباكهم وازعاجهم؟
احتدمت مناقشاتي مع والدتي بهذا الجانب، حتى انتهى النقاش على عدم خروجي للقرع بالطبلة أو كما يعرف (الدمام)، مضى اليوم الأول والثاني من رمضان، سألني خلالهما الكثير من الجيران وخصوصا كبيري السن قائلين لي: (صار يومين ما نسمع صوت الدمام.. الله يرحم الوالد ما يفوته ولا يوم)، كنت أتهرب من الاجابة بذرائع مختلفة إلى أن دق باب بيتنا جارنا الذي بمحاذاتنا يسألني عن السبب إن كنت مريضا ينوب عني بهذه المهمة حتى أتعافى فأفصحت له عن خجلي وترددي فحثني على تنفيذ وصية أبي وبأنه سيخرج معي قبل طلوع الفجر ليدعمني ويساعدني.
ختم ابراهيم حديثه: شعور لا يوصف حينما حملت طبلة أبي (رحمه الله) بدت لي مقدسة وأن العمل الذي أقوم به له خصوصية لدى الناس عامة حيث وجدت الشوارع مضيئة تملأها الشباب والأطفال وهم يحيوني فرحين بقدومي وكأن صوت ضربات (الدمام) تذكرهم بأيام رمضان الماضية وبوجوده يحافظون على تاريخ لياليه الجميلة المباركة وأصالة عاداته.
قارع طبلة رمضان
على الرغم مما يشهده العالم من تطور في تكنولوجيا المعلومات ووسائل السوشيال ميديا ووجود مختلف أنواع المنبهات وأجهزة الموبايل، إلا أن قارع طبلة رمضان (أبو الدمام) لم تفنيه الحداثة إذ إن أغلب البيوت العراقية تنتظر قدومه والاستمتاع بسماع قرعات طبلته ونفخات بوقه.
تقول الحاجة أم عماد في عقدها الثمانين: أنا لا أجيد استخدام الهاتف النقال ولا حتى منبه الساعة، ابني وزوجته لا يتناولون وجبة السحر وأنا أحرص على عدم ازعاجهم حيث أعتمد بالاستيقاظ على صوت (أبو الدمام) لأتناول كسرة خبز وشربة ماء أسد بها رمق صيام اليوم التالي.
وأضافت: عادة قرع الطبول منذ أن كنت طفلة صغيرة وهي موجودة حيث كنت أنتظر قدوم (أبو الدمام) برفقة أبي حيث كان أبي يجهز له وجبة خفيفة يتناولها في طريقه خشية أن يداهمه وقت الامساك، وما زالت هذه العادة حتى يومنا هذا لا يمكنها أن تندثر وخصوصا في الأحياء الشعبية.
تطور ملحوظ
فيما قال الشاب بلال أمين: أنا أحب سماع صوت (الدمام) بالرغم من أنه يوقظ الأطفال فزعين من نومهم وذلك بسبب التطور الملحوظ في نغمات الايقاع فقد أضاف لصوت قرع الطبلة النفخ في البوق شبيها بالاستعراض العسكري وقريبا من عزف المسير، الأمر الذي يجعلها عالية الصدى توقظ الحي بأكمله.
بينما أعربت أم ليث عن حبها الشديد لدور (أبو الدمام) قائلة: لا يستطيع أحد الاستغناء عن (أبو الدمام) رغم وجود عدد من البدائل فهو يكمل لوحة جمال أيام رمضان ولياليه وقد كان من الطقوس المحببة لدى أمي (رحمها الله) حيث كانت تصحو لتناول وجبة السحر على صوته فقط ولا تعترف بأي منبه آخر، كما كانت تنتظره في صباح أول أيام العيد بفارغ الصبر لتعطيه المال اكراما لجهوده (عيدية) كما تجهز له كيسا كبيرا من قطع المعجنات (الكليجة) لهذا أنا شديدة التعلق بصوت الطبل وهو يقرع حيث أستيقظ من نومي وأقرأ سورة الفاتحة لأمي (رحمها الله).
مسك الختام
تتنوع الطقوس الرمضانية بالكثير من العادات المحببة لدى الناس بشكل عام، من جملتها قرع الطبول في وقت السحر أو كما يلقب صاحبها (أبو الدمام) الذي يكسب شعبية كبيرة من قبل أهالي الحي وعلى الرغم من امتعاض البعض لصخب صوت الطبل والبوق إلا أنهم لا يحبذون أن تنقطع هذه العادة السنوية إذ تخلد ذكريات جميلة لديهم سواء عن ذويهم أو لليالي رمضان المباركة، كما أن صوت ضربات الطبل تغير مع مرور الزمن حيث تحول إلى معزوفات مبتكرة في مجال الموسيقى الفولكلورية، اضافة إلى استخدام البوق ليواكب الحداثة واستمراره لكونه يعتبر جزءاً أساسيا من العادات الرمضانية المحببة.
اضافةتعليق
التعليقات