قبل بضعة أشهر، كتبت صديقةٌ لي في حسابها على أحد منصات التواصل الاجتماعي نصاً تُعبّر فيه عن حبها للصيف وولعها به وكم إنه يُشعرها بالشباب والطاقة! ومما كان يُزيد من حيرة القارئ فيما يقرأ أن الجو حينذاك كان في أوجّ أيام اتقاده، كنا نعيشُ أجواءً لاهبة تُذهب الصبر وتجعل الجنون واقعاً لا محالة وكان الأشخاص الذين يعلقون على نصّها كلهم في صدمة، أن كيف يمكن لشخص أن يرى جانباً حسناً في أمرٍ يبغضه الجميع ويعاني منه أشد المعاناة! لكنني دخلتُ في أعماق فكرتها وكلامها، تأملتُ حديثها وخضنا نقاشاً بعد ذلك هو الذي جعلني أكتب هذا المقال.
التساؤل الجوهري الذي خطر لي هنا هو كيف تُعرف قيمة الأشياء بأضدادها؟ وهل ستكون لبرودة الشتاء قيمة لولا أنها تأتي بعد أشهر من التجمّر بنيران الصيف؟ هل سيُشتهى المطر إلا بعد فترات من الجدب؟ وهل سنلاحظ فرقاً في الطبيعة التي تنتعشُ في الربيع لولا أن براعم النباتات تنمو على أغصانٍ جافة!.
إن الغوص في هذه الفكرة يجعلنا نعلم أن كل شيء نعيشه يملكُ قيمته عندنا من نقيضه، فقيمة الطعام وشهيتنا له يُحددها الجوع، ودفئ ملابسنا يتحدد بمدى برودة الجو من حولنا، وشوقنا للأشخاص المقربين منا يُزيّده عامل البُعد عنا وقلة لقائنا بهم، ولا يُقاس مستوى التطوّر أو التقدم في مسارٍ ما إلا حين يُقارن بفترات ركود سابقة، وهكذا ينطبق الأمر على كل شيء في الوجود، ليلٌ ونهار، مطرٌ وشمس، فقرٍ وغنى، جوعٌ وشَبَع..
إن ادراك المرء لهذه الخاصية الوجودية يجعله يُقيّم الأشياء بطريقة تختلفُ كل الاختلاف عن رؤيته السابقة المتساوية لكل شيء، وإن تفعيل هذه الرؤية يُكسب الأيام قيمة مضاعفة ويُنسق مسار العيش اليومي لكل شخص.
تُفعّل خاصية التباين هذه تجلياً روحياً وقلبياً يمكّن الإنسان من إبصار تفاوتاً هائلاً بين مكونات الوجود، كالفرق بين درجة حرارة أقرب الكواكب من الشمس وأبعدها عنها، الفرقُ بين مشرق النور ومغربه، بين الحلاوة والمرارة، بين هديرُ حمامةٍ وعواء ذئب، بين دفءٍ وزمهرير، الاختلاف بين الحياة والموت، والظلمات والنور.
إن مهارة التمتّع بالنعم الإلهية هي ما نحتاجه لمعرفة كيف تُعاش أيام الأرض، ولولا خلق الله لنقائض كل شيء، ولولا الظلم والظُلمات لما عرفنا جلالته وأدركنا أنه نورٌ على نور، ولولا وجود الباطل لما أقررنا بأنه الحق المطلق الذي لا يُخاب من أبصره وآمن به.
اضافةتعليق
التعليقات