التربية هاجس يؤرق الوالدين والمربين وكل من يتحمل المسؤولية في السلك التربوي، حيث يخفق البعض وينجح آخرون ولو نسبيا، في مقابل مقاومة التيارات والهجمات الثقافية والفكرية التي تنهال عليهم من هنا وهناك.
ماهي الأسس التي يجب التركيز عليها في التربية؟ وهل يحتاج المربي الى منهج تربوي؟ وكيف تثمر الجهود التي تبذل ازاء الجيل المربى؟
أفضل المناهج التربوية الموجودة هي الوصية 31 من قسم الوصايا والرسائل حيث تعتبر ثاني أكبر رسالة في نهج البلاغة كتبها الإمام علي (عليه السلام) إلى ابنه الامام الحسن المجتبى (عليه السلام) بمدينة حاضرين عند انصرافه من حرب صفين، وهي في نواحي صفين، حيث يتم توجيه أنظارنا وأفكارنا إلى أهمية التربية وما اقتضتهُ في تضمين هذه الوصية في أجواء الحرب.
وإن كانت هذه الوصية موجهة إلى الامام الحسن (عليه السلام) بشكل خاص حيث تشتمل نمط التربية الأبوي الذي يولي جل اهتمامه لولده في أقسى وأحلك الظروف التي تحيطه من جهة، وتعكس أسلوب المربي الواعي لكل انسان يطمح للارتقاء نحو الافضل بشكل عام.
في ظلّ حرب طاحنة كحربِ صفين وتحت ضغوط الانشقاقات والاختلافات التي اشتملتها هذه الحرب على وجه الخصوص، اهتم أمير المؤمنين (عليه السلام) شديد الإهتمام بكتابة هذه الوصية تبيانا لخصوصيتها ومنهلها التربوي لكل الآباء والأمهات.
وكذلك للإنسان نفسه حيث يصل عند نقطة معينة وهو عمر الانفصال وهو يتولى زمام تربية نفسه، لذلك لا يشتمل مفهوم التربية المعنى الثنائي فحسب (وهو ما يدور بين الوالد والولد) وإنما يتمحور حول كيفية حضور معنى التربية في نفس الإنسان من دون موّجه وهذا هو الهدف.
اضافة إلى ذلك اجتاز الإمام (عليه السلام) مرحلة الأبوة المادية حتى كان أباً روحياً لكل الأمة وذلك بقول رسول الله (صلى الله عليه وآله): (أنا وعلي أبوا هذه الأمة).
قالوا في التربية
لقد تطرقت مذاهب عدّة إلى تعريف (التربية) منها:
أفلاطون: (التربية تضفي على النفس والروح كُل جمال وكمال)، وهذا يعتمد على الناحية الكمية من التربية، وذلك بمزاولة جميع الأنشطة العقلية والبدنية المؤدية لكمال الفرد.
أرسطو: (الغرض من التربية أن يستطيع الفرد عمل كل ما هو مهم وضروري في الحرب والسلم). فقد ركّز مفهوم التربية على موقع الحرب كناية عن قدرة التربية على تقويم سلوكه في أشد المواقع فتكاً بالروح والسلوك.
جون ديوي: إنها عملية صوغ وتكوين لفعالية الأفراد ثم صب لها في قوالب معينة أي تحويلها إلى عمل اجتماعي مقبول لدى الجماعة.
جولز سيمون: (التربية هي الطريقة التي بها يكون العقل عقلاً حُرّاً والقلب قلباً حُراً)، وهنا نقطة الربط بين التربية وقوة الإرادة.
وهي عملية تشبيه ذكية لمفهوم التربية فهي تعمل كالقوالب المستدامة لتشكيل سلوك الأفراد ولكنها تختلف باختلاف أوعية القلوب والعقول.
الغزالي: (معنى التربية يشبه فعل الفلاح الذي يقلع الشوك ويخرج النباتات الأجنبية من بين الزرع ليحسن نباته ويكمل ريعه).
وهذا القول إن كان الأكثر طرافة وحقيقة ولكنه الأقرب للعقول من حيثُ المعنى والمدلول.
في معنى التربية:
في بداية الموضوع يجب أن نوضح معنى التربية لغوياً لتكتمل بعدها الصورة، وهناك ثلاث أصول لكلمة التربية:
رَبَى بمعنى الزيادة والنمو
رَبي يُربي بمعنى نشأ وترعرع
ربَّ يُربي بمعنى أصلح وتولى أمره وساسه وقام عليه ورعاه
وكل هذه المعاني تخدم المعنى العام للتربية، أما اصطلاحاً فهي: تغذية الإنسان للوصول إلى حد التمام والكمال، فمراحل الكمال هي غاية كل أب وأم يسيرون على نهج التربية القويم، والتغذية بحد ذاتها هي تغذية الروح والجسد والفكر والوجدان، وهنا يتوازن الإنسان ويستحصل معنى الاستقامة، فبناء العادات على سبيل المثال ما هي إلا بذرة يراد منها إبراز الجانب الخيّر للفرد.
فالنتيجة التي نستخلصها من المعنيين وهي أن التربية هو التخطيط الاستراتيجي لبناء شخصية الإنسان بكل جوانبها.
التخطيط الاستراتيجي للتربية
التخطيط الاستراتيجي هي الخطة التي يضعها الانسان للوصول إلى أهدافه وتتضمن عدة مفاهيم:
1- الرسالة (mission): ما هو الغرض الأساسي الذي تسعى لتحقيقه، ما هو الهدف من تربيتك لابنك؟
2- الرؤية (vision): الطموح الذي يود الوصول إليه أو ما يريد أن يراه في المستقبل (وهي قبل العمل)، ماذا تطمح أن يكون ابنك في المستقبل؟
3- الغايات (objectives): الموقع الذي يود الوصول إليه في المستقبل (بعد العمل)، ماهي المحطة أو الموقع الذي ترغب أن ترى ابنك فيه؟
4- الاستراتيجية (strategy): الأفكار والمبادئ التي تنطلق من خلالها نحو أهداف معينة وتحدد الأسباب والوسائل التي تساعد على تحقيق هذه الأهداف، ماهي الأسس والأفكار التي تبني عليها تربية ابنك؟
وهذه النقاط هي من أهم نقاط التخطيط المتقن لأي عمل، فلو اتبع الإنسان هذا التخطيط لنفسه أو لأبنائه لبلغ ذروة هذا العمل.
المنهج العلوي في التربية
أما المنهج العلوي فقد اشتمل على محاور أوسع في التربية من خلال:
الحنان الأبوي ونقل التجارب الى الابناء، التربية العقائدية، التربية التقوائية، التربية النفسية، التربية الاجتماعية، التربية الفكرية، التربية التاريخية.
الحنان الأبوي
من أهم ما يمكن أن يرتكز عليه تأثير الكلمة هو أسلوب العطف والحنان النابع من القلب وهو إن وجد لهو القفزة الأولى نحو التغيير، نرى أن الحنان الأبوي هو الطاغي في كل الوصية لذا يبدأها: (من الوالد الفان) وبها ما استهلَّ به أمير المؤمنين (عليه السلام) وصيتهُ للإمام الحسن (عليه السلام): (مِنَ الْوَالِدِ الْفَانِ الْمُقِرِّ لِلزَّمَانِ الْمُدْبِرِ الْعُمُرِ – الْمُسْتَسْلِمِ لِلدُّنْيَا – السَّاكِنِ مَسَاكِنَ الْمَوْتَى والظَّاعِنِ عَنْهَا غَداً).
إن الحس الأبوي الطاغي على أسلوب الوصية هي رسالة لإفهام الابن أن الأب يحمل في جعبته حقيبة من التجارب التي حصل عليها من خلال سنوات عمره، كما أن اللغة هي لغة التواضع والابتعاد عن الاستعلاء وهذا بحد ذاته يؤثر ايجابا في نفس المخاطب.
وفي نفس الوقت أن يشعره ستكون أبا مستقبليا وهذه الحقيقة تجعله مستعدا لقبول الموعظة والنصح، لأن مايتقبله الأبناء من الآباء سينتج عن تقبل أبناءه لآرائهم.
وكذلك طغت هذه الخبرة الى ابراز حقيقة التسليم للموت عاجلاً أم آجلاً.
ويسترسل الامام في النصيحة لبيان حقيقة الدنيا رغم الصعوبات والأزمات التي مر بها حيث يقول: (فَإِنَّ فِيمَا تَبَيَّنْتُ مِنْ إِدْبَارِ الدُّنْيَا عَنِّي -وجُمُوحِ الدَّهْرِ عَلَيَّ وإِقْبَالِ الآخِرَةِ إِلَيَّ - مَا يَزَعُنِي عَنْ ذِكْرِ مَنْ سِوَايَ... فَأَفْضَى بِي إِلَى جِدٍّ لَا يَكُونُ فِيه لَعِبٌ - وصِدْقٍ لَا يَشُوبُه كَذِبٌ).
وهنا يستخدم الامام علي ( عليه السلام) أكثر الألفاظ قساوة لوصف غارات الدهر وهي "جموح الدهر" بمعنى تكالب الدهر بكل مصائبه على قلب أمير المؤمنين (ع) بدون قيد أو شرط..
رأى الامام (عليه السلام) ان كوكب عمره متجها نحو الأفول ينبغي الاهتمام بنفسه والاستعداد لسفر الآخرة ولكن وجود الابن اقتضى أن يقدم له بعض النصائح والتحذيرات.
عندما ينقل الأب تجربته على طبق ذهبي فهذه قمة المحبة والحنان وهي بيان حقيقة الدنيا كاملة وهي جدية وليست هزلية وصدقا وليست كذبا، اضافة الى ان الابن سيمر بهذه المحطات لاحقا ولا يبقى في مرحلة الشباب للأبد.
(وَوَجَدْتُكَ بَعْضِي بَلْ وَجَدْتُكَ كُلِّي حَتَّى كَأَنَّ شَيْئاً لَوْ أَصَابَكَ أَصَابَنِي وَكَأَنَّ الْمَوْتَ لَوْ أَتَاكَ أَتَانِي فَعَنَانِي مِنْ أَمْرِكَ مَا يَعْنِينِي مِنْ أَمْرِ نَفْسِي، فَكَتَبْتُ إِلَيْكَ كِتَابِي - مُسْتَظْهِراً بِه إِنْ أَنَا بَقِيتُ لَكَ أَوْ فَنِيتُ).
في هذه المحطة يقارب الامام مايراه الأب من الصفات الوراثية والجينية والاكتسابية التي يرثها الأولاد منهم آبائهم حتى يشكلوا جزء من شخصية الآباء، كما هي كناية عن شدّة اتّصاله به وقربه منه ومحبّته له، ولأن الولد من بعض الانسان لأن جزء من دمه ينقلب سائلا منويا ثم ولدا، فقد قال الشاعر:
من سره الدهر أن يرى الكبدا-----يمشي على الأرض فلير الولدا
وجاء في شرح نهج البلاغة للمرحوم التستري أن رجلاً إعرابيا مات ابنه فكفّنه ودفنه ثم قال:
دفنتُ بنفسي بعض نفسي فأصبحت-----وللنفس منها دافنٌ ودفين
إن ما يلمس من هذا المقطع أن علاقة الوالد بالولد هي علاقة أصل وليست علاقة عابرة يمكن الاستغناء عنها كما تساعد على صقل شخصية الابن وتنميتها بالطريقة الصحيحة، وأن تفعيل دور الأب في التربية يغنيهم في التغلب على المشاكل السلوكية ووجوده مهم في تميزهم في الجانب الاجتماعي والتعليمي وقصة أبناء النبي يعقوب مثال يذكره القرآن الكريم.
وغياب الأب يُحدث فجوة في كوامن الأسرة إلى الحد الذي يؤول بهم إما إلى الهشاشة النفسية أو الانحراف الأخلاقي، وهذا بحد ذاته دعوة واضحة وصريحة إلى تفعيل دور الأب في المجتمعات خاصة وفي العالم أجمع وإخراجه عن إطار المصدر المادي للأسرة فقط.
إضافة إلى فتح الحوار بين الآباء والأبناء وتكوين علاقة ودية بين الطرفين، وقد أثبتت الدراسات: أن شخصية الرجال الذين يحظون بعلاقة جيدة مع آبائهم هم أقوى وأكثر حيوية من أولئك الذين كانت علاقتهم ضعيفة أو غير صحية مع آبائهم حيث أنهم يتعاملون بشكل أفضل وقادرين على تحمل المسؤولية مقارنة بالفئة الأخرى التي تعاني من القلق والتوتر والكبت والإحباط.
واذا طرحنا هذا السؤال كم يوجد من الآباء والأبناء لديهم علاقة واعية ومبنية على الحوار فيما بينهما؟
فقد تكون الاجابة محزنة للأسف فقد تمحورت العلاقات في أغلب العائلات حول مفهوم المسؤوليات المادية متناسين العلاقات النفسية والعاطفية للطرفين مما آل إلى وجود فصل زمني بين الجيلين.
الاستفادة من تجارب الآخرين
ويؤكد الامام (عليه السلام) الى الاستفادة من تجارب الجيل الأسبق حيث يقول (عليه السلام):
(لِتَسْتَقْبِلَ بِجِدِّ رَأْيِكَ مِنَ الأَمْرِ - مَا قَدْ كَفَاكَ أَهْلُ التَّجَارِبِ بُغْيَتَه وتَجْرِبَتَه - فَتَكُونَ قَدْ كُفِيتَ مَئُونَةَ الطَّلَبِ - وعُوفِيتَ مِنْ عِلَاجِ التَّجْرِبَةِ - فَأَتَاكَ مِنْ ذَلِكَ مَا قَدْ كُنَّا نَأْتِيه - واسْتَبَانَ لَكَ مَا رُبَّمَا أَظْلَمَ عَلَيْنَا مِنْه).
وهنا يستوفي أمير المؤمنين (عليه السلام) كل تجارب دهره ليقدمها لولده الحسن (عليه السلام) وإلينا جميعا وقد يكون المراد ان يستفيد الجيل الحاضر وهم الأبناء والأحفاد من الجيل الماضي الآباء والأجداد حيث ان انتقال التجارب هو نوع من التقارب بين الأجيال السابقة والأجيال المعاصرة، وهي بمثابة المضاد الحيوي للإنسان كي لا يعيد الأخطاء السابقة. وإذ هي أسس في كيفية التعامل الصحيح مع الحياة واختصارا للوقت والجهد، وجاء في الأثر: اسأل المجرب قبل الحكيم. لأنه سيكون معلما لغيره.
التجربة والخبرة
الخبرة والتجربة هي غنيمة الأيام وما يكتسبه من تجارب خلالها، ويمكن تعريفها لغوياً بأنها مظهر من مظاهر المعرفة التي تتكون من علاقات الإنسان وبيئته وما يترتب عليها من آثار، وبالتالي يمكن أن يعطي المواقف والأشياء المعنى المكتسب من تجاربه كفرد.
وفي كيفية تشكيل الخبرة وهي العلاقة بين الفعل والانفعال، فعل الإنسان في الأشياء وانفعاله بها. فانفعال الانسان بالنار هو ما يولد الخبرة بأن النار محرقة. ويعمم هذا السلوك الانفعالي على كل نارٍ، وبذلك تتكامل عناصر ثلاثة في تكوين الخبرة: مكون حسي–عملي وهو استشعار الحدث، ومكون انفعالي وهو التفاعل مع الحدث، ومكون معرفي–عقلي وهو التعامل الناضج مع الحدث وتعتبر هذه الثمرة الناضجة التي تقدم الى الآخرين بشكل عام والجيل المعاصر بشكل خاص.
وختاما ما هي طريقتك الخاصة للاستفادة من خبرات وتجارب الآخرين؟
اضافةتعليق
التعليقات