إن من أهم الثقافات السلبية التي نعاني منها كمجتمع هي ثقافة الشكاية والتبرير لكل سلوك خاطئ موجود، ومن تلك الشكاوى هي صعوبة التربية لهذا الجيل من قِبل الكثير من الأمهات، مع أننا في بلاد مسلمة ومحيطاتنا في الغالب محيطات محافظة، -وكما يعبرون- فأن العصمة الاجتماعية موجودة ولله الحمد، بل إن هناك من هم في بلاد غير محافظة ولا يبادرون بالشكاية من الخوف لعدم التمكن من تربية ابناءهم، إذاً المشكلة أين؟!
في الغالب المشكلة ليست في صعوبة تربية هذا الجيل، وإنما في عدم ادراك الابوين نفسهما، إن أساليب التعامل والتربية اختلفت، فالفطرة هي ذاتها سواءً في هذا الجيل أو ذاك الذي مضى، فالرجل والمرأة في الغالب يفكرون قبل الزواج بكل شيء ليستعدوا له، إلا الاستعداد ليكونوا اباء وأمهات، مربين ومربيات.
ونحن كأتباع لأهل البيت عليهم السلام لدينا سيرة النبي(ص) وعترته الطاهرة(ع) فيها من الأسرار التربوية النافعة إلى ما شاء الله، ولكن نحن نبادر بالشكاية بدل التأمل في سيرتهم وكلماتهم التي لو عملنا بها لعاشت كل الأسر حياة طيبة وسعيدة، ولكن من يبتعد عن النور كيف له ألا يعيش في الظلام؟!
لذا سنتطرق إلى بعض الأساسيات التربوية التي استخدمتها الصديقة الزهراء(عليها السلام) في تنشأة وصناعة جيل انساني والتي منها:
الأساس الأول: الأم المسؤولة وترتيب الأولويات
ورد في سيرة الزهراء(ع) نص شاهدنا فيه: "عن انس أنه قال: إن بلال بطأ عن صلاة الصبح فقال له النبي (ص) ما حبسك فقال: مررت بفاطمة وهي تطحن والصبي يبكي فقلت لها إن شئتِ كفيتك الرحا وكفيتني الصبي، وإن شئت كفيتكِ الصبي وكفيتني الرحا، فقالت: أنا أرفق بابني منك.... " (١).
إن هذا السلوك من قبل السيدة يعطي درساً لكل أم أن الاعتناء بالأبناء وخاصة في الصغر هم في سلم الأولويات، فلا تقدم أي عمل على هذا العمل، لماذا؟
لأن أي انسان مسؤول تجاه مهام عدة، وهو الذي يحدد ما هي المهمة التي لا يمكن لأحد أن ينجزها، ويعطيها حقها، لذا يولي لها الأهمية ويلتفت لها دون غيرها، ومن هنا نحن نعلم أن الأم هي المغذي الأول للطفل معنوياً ومادياً، وأي نقص في ما تعطيه من عطف وحنان وحب وأمن سيوجد خللاً وفراغاً نفسياً لا يمكن تعويضه وسده في الكبر وبأي شكل من الأشكال، لذا الأم الفاطمية الواعية تكون مسؤولة تجاه هذه الأمانة التي كفلها بها سبحانه وتعالى.
ومن هنا يمكن أن نشير إلى خطورة وضع الأطفال في سن مبكر في الحضانات، فالمربية مهما كانت مخلصة ومتقنة لعملها لن تسد مكان الأم الحقيقية هذا من جهة، ومن جهة أخرى هي ستوزع اهتمامها على مجموعة أطفال، فمن السهل لنا أن نقيس مقدار الاهتمام الذي سيصله من هذه المربية مقارنة باهتمام الأم لو كانت هي التي تعتني به، وبالتالي غيرها من سيتولى بغرس القيم التي ستبني شخصيته.
فأول مؤشر يُنبئ عن وجود حقيقة الأمومة عن المرأة هي مدى كونها "غيورة" على ابنائها، وحرصها على أن تتولى مسؤولية الاعتناء بهم.
الأساس الثاني: السلوك الحسن خير مربي
إن طبيعة الانسان انه يتأثر ويتعلم من خلال ما يراه أكثر مما قد يسمعه، لذا فكلما كانت الأم نموذج صالح في سلوكياتها، كلما كان وقع أثر ذلك على سلوك ابنائها أكبر، فعن الحسين بن علي، عن أخيه الحسن بن علي عليهما السلام قال: "رأيت أمي عليها السلام قائمة في محرابها ليلة جمعتها فلم تزل راكعة ساجدة حتى اتضح عمود الصباح...".
فالرواية قالت (رأيت) ولم تقل مثلاً (أوصتني)، ومن هنا نعرف أصل كلمة سيد الشهداء(ع) ليلة عاشوراء لما طلب ان يُمهله القوم حتى غد لما قال (لعلنا نصليّ لربنا الليلة وندعوه ونستغفره، فهو يعلم أني قد كنت أحب الصلاة له وتلاوة كتابه وكثرة الدعاء والاستغفار) فهذه الثمرة من تلك الشجرة المباركة.
ثم تكمل الرواية: "وسمعتها تدعو للمؤمنين والمؤمنات وتسميهم، وتكثر الدعاء لهم ولا تدعوا لنفسها بشيء...".
وهنا أيضا قال (سمعت) أي كان هناك تجسيد عملي أمامه، ومن هنا أيضا نعرف أصل سلوك سيد الشهداء(ع) إذ انه كان يدعو حتى لأعدائه، بل ويبكي لأجلهم، لانهم ابتعدوا عن الحق، فرحمة سيد الشهداء(ع) هي من رحمة الصديقة الطاهرة بخلق الله تعالى، فهم بالأصل تجلي لرحمة الله الواسعة.
ثم تكمل الرواية: "فقلت لها يا أماه لم لا تدعين لنفسك كما تدعين لغيرك؟ فقالت يا بني: الجار قبل الدار" (٢).
لذا الزهراء عليها السلام من خلال سلوكها ومنطقها كانت تربيهم على روح البذل والعطاء، وحب الخير للآخرين، بل هي جسدت أروع صور الايثار، فكان نتاجها الامام الحسن(ع) الملقب بكريم أهل البيت(ع)، وبنتا كانت تلقب "بأم العجائز" لشدة اهتمامها بمن حولها من العجزة وكبار السن والفقراء والمعوزين، كانت مع كل ما جرى عليها من فقد وألم لأهل بيتها واحداً تلوا الآخر بين مقتول ومسموم، كانت تداوي جراحاتها وآلامها بمداواة القلوب المنكسرة والبطون الجائعة والمعوزة أينما حلت..
هكذا صنعت الزهراء(ع) نموذج للقوة والصبر والتضحية والعطاء، فحري بكل امرأة تنتمي إلى الصديقة الزهراء(ع) أن تكون بمستوى يليق بانتمائها من خلال تأسيها بمولاتها، بإعداد جيل يسر قلب مولاتها، ويكونون أنصاراً لإمامهم.
الأساس الثالث: غرس وتثبيت العقيدة السليمة في نفوسهم منذ الصغر
بمقدار ما تكون الأم تحمل وعياً دينياً ومتبعة للعقيدة الحق، بمقدار ما يساهم ذلك في صنع جيل سليم عقائدياً، فعن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال: "بادروا أولادكم بالحديث قبل أن يسبقكم إليه المرجئة". (٣).
فمن الأساليب الجميلة أن السيدة الزهراء(ع) كانت تستثمر لحظات إلعابهم بغرس قيم الحق فيهم وربطهم بإمامهم كما كانت تلقنهم قائلة:
أشبه اباك يا حسن واخلع عن الحق الرسن
واعبد إلها ذا منن ولا توال ذا الإحن(٤)
وهذا درس مهم لكل أم عندما تسمح لأبنائها باللعب فلتختار لهم ما فيه نفع وفائدة تنمي روح التعقل والوعي فيهم، لا حب اللهو وتضييع الوقت بلا نفع، وذلك لكي يتربى على معرفة قيمة العمر والوقت من جهة، وتغرس فيه قيم دينه من جهة أخرى.
فسنة الله تعالى قائمة على الاتباع، والانسان لابد له من امام يهتدي به (أي يأخذ بيده ويقوده للحياة الأبدية)، فعدم تعريف الأبناء بالأمام الحق الواجب اتباعه، من شأنه أن يصنع إنسان ضال، فإن لم يتبع أئمة الهدى، اتبع أئمة الكفر والضلال.
كذلك مسألة السماح لهم باللعب خارج المنزل في مسجد رسول الله (ص)، فعن الرضا(ع) عن أباءه أنه قال: "إن الحسن والحسين كانا يلعبان عند النبي (ص) حتى مضي عامة الليل...،"(٥).
فهذا درس بليغ لأن الطفل إذا مارس ما يحب في مكان فيه جانب التغذية المعنوية سيرتبط به روحياً ويترك أثراً وذكرى طيبة في داخله، وعندما يكبر لن يتخلى عنه وعن التردد إليه.
وفي حديث اخر كان الرسول (ص) يدخل في صلاته حتى إذا سجد جاء الحسين(ع) فركب ظهره، فكان يطيل السجدة فيسأله بعض اصحابه عن ذلك...، فيقول (ص): "...، ابني ارتحلني فكرهت أن أعجله حتى يقضي حاجته." قراءة في السيرة الفاطمية، ص٤٠١.
لذا على كل الأمهات أو الآباء إذا أخذوا ابناءهم إلى مكان فيه ذكر لله ولأهل العصمة عليهم السلام عليهم أن يُعلموا ابناءهم قيمة المكان الذي سيذهبون اليه، وبنفس الوقت لا يجب تقييد حركتهم كما نرى وهو الشائع في ثقافتنا من تهميش وتعنيف للطفل في هكذا أماكن، لأن تقييده والتكلم معه بخشونة يترك انطباع سلبي في ذهنه عن هذا المكان، بخلاف تركه يتصرف بأريحية، فحبه لهذا المكان - كما قلنا - عندما يكبر سيثمر علاقة وجدانية تربطه به فلا يتركه بل سيستمر بالتردد عليه وتتوثق العلاقة به أكثر، وهذه من العصم الاجتماعية التي تحفظ الأبناء من الانحراف، والانخراط في الأماكن الغير جيدة.
الأساس الرابع: الحرص على علم وتعليم الابناء
من أهم أساسيات بناء جيل واع هو الاهتمام بمستواهم التعليمي وهذا ما لوحظ عن السيدة حيث كانت تولي اهتماما كبيرا لهذا الجانب فكانت تصغي باهتمام كبير بل وهي تطلب منهم أن ينقلان لها ما تعلماه عند العودة، ينقل في الروايات "إن الحسن كان يحضر مجلس رسول الله (ص) وهو ابن سبع سنين فيسمع الوحي فيحفظه، فيأتي امه فيلقي إليها ما حفظه..." (٦) ، فهذا درس تعلمه مولاتنا الصديقة لكل أم لكي يستشعر الأبناء أهمية العلم، والأبناء عادة يميلون لما تميل له الأم، فإن اظهرت اهتماما بعلمهم انتقل هذا السلوك اليهم فاهتموا بتعلمهم هذا من جهة، ومن جهة أخرى السؤال المتواصل عما يتعلمونه يثمر ترسيخ المعلومة في أذهانهم بالإضافة إلى تشجيعهم ودعمهم معنوياً في ان يكونوا افضل، وهذا درس آخر لكل أم واعية.
الأساس الخامس: تنمية الجانب الانساني
وسنخص بالذكر جانب الاهتمام بالشهداء وعوائل الشهداء وقضاء حوائجهم حيث ينقل أنها سلام الله عليها " كانت تخرج إلى قبره الشريف مصطحبة ولديها الحسنين (ع) لتبكي أباها، وكل الشهداء الذين سقطوا معه،...". (٧).
وهذا درس نحن بأمس الحاجة له في وقت كثرت فيه عوائل الشهداء وأبناءهم وذلك من خلال أن تُربي الأم أبنائها على توقير واحترام عوائل الشهداء، وتعرفهم بأنهم مدينون لهؤلاء الفتية لأن أبيهم قدم نفسه ثمناً ليعيشوا هم بأمان وفي كنف أبيهم، لذا أقل ما يقدمونه أن يكرموا أبناء الشهداء ويشعرونهم بعلو قيمتهم ومقامهم عند الله تعالى وفيما بينهم، فيجبروا شيء من انكسار قلوبهم لما فقدوه، فعندما يجد ابن الشهيد رفقة صالحة ودودة ومحبة، سيخفف عنه الكثير من الضعف الذي يعيشه بينه وبين نفسه كونه بلا أب يرعاه ويسنده، هكذا فلتبين كل أم لأبنائها على أن يكونوا هم سنداً لهؤلاء الفاقدين.
وهذا شيء يسير مما تحمله سيرتها من دروس وعبر، عسى أن نكون ممن وفق لأخذ شيء من الكوثر(عليها السلام)، لما فيه خير لنا ولبناء جيلنا بشكل سليم.
وأخيراً: علينا أن لا نغفل أن الطفل هو كالبذرة التي كلما كان غلافها قوي، قاومت البيئة القاسية والضارة بها، ونمت وأثمرت، لذا الذي يحسن تربية أبناءه بما يُحصن فطرته من البداية من الانحراف يُرجى له ان يستقيم، وإن مال وانجرف في مرحلة من مراحله العمرية لابد أن تعيده تلك الأساسات الموجودة في داخله إلى جادة الطريق.
اضافةتعليق
التعليقات