تبدأ هذه المرحلة عند الإنسان حينما تتجرّد نفسه، متحرّرةً عن الأفق الخانق المليء بالشرور والآثام، فيبدو صفحةً رقراقة بالصفاء الروحي، ويكون مظهره دالّاً على مخبره، وسيماؤه قراءة ناصعة عن واقعه؛ فهما متحدان رائعان في الإطار والمحتوى، وإلّا فلا تُحقّق له المظاهر المتوهّجة صيانةً من ضلال، ولا حفاظاً من هوى.
لأن الاطمئنان إلى الذات السليمة ينطلق من واقع تلك الذات في رياضتها وسلوكها وعرفانها، وهذه المخائل تنبع من صميم النفس الإنسانية، ولا تُفرض من الخارج؛ لأنها حركة دؤوبة في ضمير الوعي الداخلي، شعوراً وإحساساً وعطاء.
الإمام الباقر (عليه السلام) يقول: "من كان ظاهره أرجح من باطنه، خفّ ميزانه"؛ لأن الإنسان النموذجي هو ذلك الشخص المتكامل الأبعاد في التركيب، سريرةً وملامح. فإذا رجح ظاهره بريقاً على واقعه، خفّ ميزانه عند الله؛ إذ المراد أن يكون باطنه الفعلي أرجح من ظاهره المشاهد، وذاتيته الخاصة أفضل من إطاره الخارجي.
تلك سيماء التقوى والورع والإنابة الصادقة، وهذه السيماء مخزون تعبّدي تضطّم عليه جوانح النفس، بعيداً عن الاعتبارات الوهمية الزائلة، فهناك غنىً حقيقي مختزن في قرائن الأحوال، في بديع الخلق وعظيم الصنع، ونظرة روحية في إيجاد الكائنات العلوية والسفلية، مما اهتدى إليه إبراهيم الخليل، كما حكاه الله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ}.
فكما أن اليقين قد قاده إلى مشاهدة الملكوت، ومشاهدة الملكوت قادته إلى اليقين، فكذلك المعرفة الإجمالية إنما تتحقّق بالفطرة، وإن كان ما عليه إبراهيم لا يصل إليه إلا الأنبياء والأبرار من أهل اليقين الثابت، من السابقين والأولياء المقرّبين، وفي طليعتهم أهل البيت.
إلا أن للأعمال الإنسانية ظاهراً وباطناً، كما أن لها طريقين بإزاء السعادة والشقاء، وسبيلين من المعرفة والجحود، ومجالين من الخير والشر؛ فالسعيد لا تتجلّى سعادته إلّا بشعاع من المعرفة المتوهّجة، ولا تنتشر إلّا بألقٍ من ذلك النور المتماوج.
والمعرفة لا تتأتى إلا بالعمل الجاد والسعي الحثيث، والعرفان الحقيقي هو ذلك الإخبات الذي يدلّ عليه العمل الصالح. وفاقد المعرفة لا عمل له، لفقدانه أهمّ مقومات قبول الأعمال. وبلمح من هذا الإيضاح، يقول الإمام الباقر:
"لا يُقبل عمل إلّا بمعرفة، ولا معرفة إلّا بعمل، ومن عرف دلّته معرفته على العمل، ومن لم يعرف فلا عمل له."
هذا التفرّغ المطلق لنقاء الذات هو دليل الواقعية الحقة التي نهض الإمام ببيانها، وأراد تحقيق هدفها من قِبل أتباعه وذويه؛ لأنها المَعلَم البارز الذي يشير إلى السموّ العرفاني الخالص، دون عوامل إضافية من التصنّع والرياء والأنانية.
وكذلك أراد الإمام للوليّ الصادق، المتبصّر بهدى الأئمة، أن يلتمس هذا النهج على صعوبته وشدّته، وأن يشرب للحق الصريح خالصاً من الشوائب؛ لأن الهدف هو الخلوص لله في النيّة والعمل. فلا يعود يخدع نفسه، ولا يجور على عقله. ومؤدّى هذا من النتائج، أنه متلبّس بملمح جديد من ملامح التكامل النفسي، بحيث لا يحزنه قدح القادحين، ولا يُبطره مدح المادحين. فلا يتطلّب رضى مَن سَخِط، ولا يُبالي بغضب مَن غَضِب. إنما همّه الأعلى السلامة من الهراء والآفات، وأن يفوز بالحظوة في الحضرة الإلهية.
والإمام لا يريد إلّا هذا المناخ الحاكم الرقيق للعارفين بالله، فيعرض المرء عمله ونفسه وملكاته على كتاب الله تعالى، فإن كان عاملاً بما فيه، سالكاً بهداه، رغبةً ورهبةً وزهداً وعفّة، فهو الفائز المنتصر الموفور، الذي لا يضيره ثلبُ مَن ثلب.
وإن كان على نقيض ما حفل به القرآن العظيم، فهو على شفا جرفٍ هارٍ، فلا يغترّ بنفسه، وهو مطالب بمغالبة الهوى، ومجانبة الآمال العريضة. فإن غالبه هواه، وفتر عن ذكر مولاه، ودعته النفس الأمارة بالسوء إلى السوء، فزع إلى التوبة النصوح، وفرّ من ذنبه إلى ربه، وتضرّع بإقالة العثرة وستْر الهفوة، وتدارك بالإنابة الزلّة.
هذا الشعاع الهادي تجده في وصية الإمام الباقر لجابر بن يزيد الجُعفي، قال الإمام:
"واعلم بأنك لا تكون لنا وليّاً حتى لو اجتمع عليك أهل مصرك، وقالوا: إنك رجل سوء، لم يحزنك ذلك، ولو قالوا: إنك رجل صالح، لم يسرك ذلك. ولكن اعرض نفسك على كتاب الله: فإن كنت عاملاً بما فيه، فاثبت، وإن كنت على خلافه، فابكِ على نفسك.
وأوصيك بخمس: إن ظُلِمتَ فلا تَظلِم، وإن خانوك فلا تخُن، وإن كُذبت فلا تغضب، وإن مُدِحت فلا تفرح، وإن ذُممت فلا تجزع."
وفكّر فيما قيل فيك: فإن عرفت من نفسك ما قيل فيك، فسقوطك من عين الله عند غضبك من الحق أعظم عليك مصيبةً مما خفت من سقوطك من أعين الناس، وإن كنت على خلاف ما قيل فيك، فثواب اكتسبته من غير أن يتعب بدنك.
ومن مظاهر الواقعية الذاتية: التواضع، فهو يدرأ الاعتبارات الزائلة بكثير من الواقع الصارم، محدداً عند الإمام بأمور:
أ - الجلوس دون شرف المجلس، إلى حيث ينتهي بك، لا تتطلّب جاهاً، ولا تزاحم أحداً، ولا تُضايق جليساً، ولا تلهث وراء كيانٍ مصطنع تتبخّر أنفاسه مع الرياح.
ب - أن تبدأ بالسلام مَن لقيت، كبيراً أو صغيراً، شريفاً أو وضيعاً، لأن إفشاء السلام من السنّة، وهو مظنّة الألفة والمحبة، وفيه إشاعة للغبطة والرضا.
ج - ترك المراء والجدال والخصومة، وإن كنت محقاً؛ لأن القيل والقال، وكثرة الجدال، مما يعكر صفو الإخوة والحياة.
قال الإمام الباقر (عليه السلام):
"التواضع: الرضا بالمجلس دون شرفه، وأن تسلّم على مَن لقيت، وأن تترك المراء وإن كنت محقاً."
وخصيصة أخرى من خصائص الواقع المندوب إليه، ما قاله الإمام الباقر (عليه السلام):
"لا يكون العبد عالماً حتى لا يكون حاسداً لمن فوقه، ولا مُحقّراً لمن دونه."
لأن العالم الخبير بحقائق الأشياء، وطبيعة مواقع الناس، هو الذي يروّض نفسه على المثل، فلا يحسد مَن فوقه، لأنه يرتفع بأعماله وملكاته عن الهراء، ولا يحقّر مَن دونه، لأنه يحاول أن يبتعد عن هفواته، ويحمل نفسه على تنزيهها من درَن الجهل والنقص، وعليه أن يعلم أنه عبد من عبيد الله، وهذا هو طاقة ما يُحسن، ومبلغ ما يُدرك.
وفي هذا الضوء، نجد الإمام الباقر يستدعي كمال ذلك في المؤمن، فيندبه إلى اصطفاء الأخ في الله، والصديق الوفي من نعمة الله، والخلوص ينبغي أن يكون منحصراً بالوفاء لهذا الإخاء، لا يشركه فيه شيء من الهوس الدنيوي، أو النفع المادي، أو التواصل للأغراض والأعراض، فكلّ ذلك زائل، وهو هباء لا يُمسك.
وإذا تمّ هذا الهدف بهذا المنظور، كان ذلك الإخاء مظنّة الإفادة من نور الله تعالى، فيكون شعاعاً مادياً بين يديه، وأماناً يُنجيه من العذاب الأبدي، وحجة له يوم القيامة، يُكتب معها الفوز والظفر والنجاة، وعزّاً باقياً لا يفنى، وذكراً نامياً لا يبلى.
قال الإمام:
"من استفاد أخاً في الله على إيمان بالله، ووفاء بإخائه، طلباً لمرضاة الله، فقد استفاد شعاعاً من نور الله، وأماناً من عذاب الله، وحجة يفلج بها يوم القيامة، وعزّاً باقياً، وذكراً نامياً؛ لأن المؤمن من الله عز وجل لا موصول ولا مفصول."
قيل له: ما معنى "لا مفصول ولا موصول"؟ قال: "لا موصول به أنه هو، ولا مفصول منه أنه من غيره."
اضافةتعليق
التعليقات