تحظى كلّ فتاة منذ نعومة أظفارها بمعاملة مميّزة من والدها، لذا نراها تلجأ إليه في جميع الأوقات وبخاصّة في الضعف والحاجة، لتلقي بنفسها بين ذراعيه إحساسًا بالحماية والدفء، فكيف إن كانت تلك الفتاة هي رقيّة (عليها السلام) التي كانت مولعة بوالدها سيّد شباب أهل الجنّة، وكان الإمام الحسين (عليها السلام) شديد الحُبّ لها، كلّما نظر إلى وجهها البريء امتلأ قلبه بالسرور.
كانت رقيّة ذات الأربع سنوات كالوردة الجميلة في بستان قلب أبيها، وكان الإمام الحسين (عليه السلام) يحبّها كثيرًا ويغمرها بدفئه وحبّه وحنانه، فقد أشبه حبّ رقيّة لأبيها الحسين (عليه السلام) وتعلّقها به بحبّ جدّتها سيّدة نساء العالمين فاطمة الزهراء (عليها السلام) لأبيها النبيّ محمّد (صلى الله عليه وآله) وتعلّقها به.
تعرّضت يتيمة الطفّ (عليها السلام) إلى مظلوميّة كالتي تعرّضت لها جدّتها الزهراء (عليها السلام)، فالزمن القاسي لم يرحم صِغَر سنّها، ولم يرعَ منزلتها العظيمة، شهدت مع والدها الإمام الحسين (عليه السلام) والعترة الطاهرة تلك الملحمة العظيمة، ملحمة الطفّ، وشهدت (عليها السلام) تلك القسوة والوحشيّة والهمجيّة في التعامل مع نساء بيت النبوّة، وحتّى في حزنها على فراق والدها كانت شبيهة بجدّتها فاطمة الزهراء (عليها السلام)، وحزنها على والدها بعد أن وافاه الأجل.
كانت رقيّة (عليها السلام) تبكي لفراق والدها في ذلك الطريق الطويل بعد أن أُخذت أسيرة ومقيّدة مع باقي بنات رسول (صلى الله عليه وآله) إلى الشام، وما فارق الدمع الغزير عينيها الصغيرتين، كلّما تفقّدت الركب تراه غائباً عن نظرها، فتجهش بالبكاء وتصرخ: أين أبي الحسين؟ أين أبتاه؟ فيأتيها الردّ ليخفّف ألم هذه الطفلة: أبوكِ يا رقيّة سافر، وغدًا تلتقينه عندما يعود، تصمت وفي صمتها ألف سؤال وألف دمعة وألف حسرة.
ثمّ تعاود السؤال مرّة أخرى عن والدها وتقول: لماذا لم يأخذني معه؟ ألست أنا حبيبته رقيّة؟! وتضجّ بالبكاء والنحيب.
فقد تُوفّيت رقيّة (عليها السلام) في الخامس من صفر سنة 61ﻫ، أي بعد مرور أقلّ من الشهر على استشهاد والدها الإمام الحسين (عليه السلام) في خربة من خربات الشام التي وضعها بها اللعين يزيد هي وباقي أهل بيت النبوّة (عليهم السلام)، ففي إحدى الليالي الحزينة انتبه يزيد - عليه اللعنة - من نومه على بكائها لفراق والدها، وأمر أن يذهبوا إليها برأس أبيها، فجاؤوا بالرأس الشريف إليها مغطّىً بمنديل، فوُضِع بين يديها، فلمّا كشفت الغطاء رأت الرأس الشريف ونادت: "يا أبتاه: مَن ذا الذي خضّبكَ بدمائكَ؟ يا أبتاه مَن ذا الذي قطع وريدكَ يا أبتاه مَن ذا الذي أيتمني على صِغَر سنّي؟ يا أبتاه مَن بقي بعدكَ نرجوه؟ يا أبتاه مَن لليتيمة حتّى تكبر؟"(1) ووضعت فمها على فمه الشريف، وبكت بكاءً شديدًا حتّى غُشي عليها، فلمّا حرّكوها وجدوها قد فارقت روحها الحياة.
إنّ الكلمات تعجز عن وصف مأساة السيّدة رقيّة بنت الإمام الحسين (عليهما السلام) التي تحوّلت إلى صوت آخر، ودم أخر، وخلود آخر للحسين (عليه السلام) وديمومته.
.............................
اضافةتعليق
التعليقات