في كبوة الظروف الصعبة، يختبئ الضعف ويعقبه الهم بذائقته الضيقة، ومن رحم الفجائع يولد الهُون على أشكاله ..
في ساعات الضجر وقلة الحيلة، تفقد الذات صفتها وتتزمت بمواقفها الصارمة دون إدراك أو ثمة وعي .. فيتسلل الغضب إلى بيت التفكير وينهم منه بريقه وشقة نظره ويتركه في عواءه الصار ، حيث لا نجاة ولا همة تنقذه، سوى سلسال ذنبه وعقرب ساعته المتقلصة والوقت يراهن على نفاد أجله ..
يعتقد البعض أن موال الغيرة، وانفعالاتها الحاقدة، أمرا طبيعيا لا يستطيع أي انسان تفاديه، لذا تتخبط مشاعره وتتسارع نبضات احتياجاته ليفصح عن دوافعه الغاضبة الرافضة للواقع فيكبكب وتزدلف نفسه لمنع الخير وانتقاص الحق من أهله .
يقول الامام الكاظم (عليه السلام) في دعاء الجوشن الصغير :
"وَأَعْلَيْتَ كَعْبِي عَلَيْهِ، وَوَجَّهْتَ ما سَدَّدَ إِلَيَّ مِنْ مَكائِدِهِ إِلَيْهِ، وَرَدَدْتَهُ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَشْفِ غَلِيلَهُ، وَلَمْ تَبْرُدُ حَزازاتُ غَيْظِهِ، وَقَدْ عَضَّ عَلَىٰ أَنامِلِهِ، وَأَدْبَرَ مُوَلِّياً قَدْ أَخْفَقَتْ سَراياهُ، فَلَكَ الحَمْدُ يا رَبِّ مِنْ مُقْتَدِرٍ لا يُغْلَبُ، وَذِي أَناةٍ لا يَعْجَلُ".
أو تمتعض دواخله ، وتبكي نفسه صبرا فيما يرى في غيره ولا يراه في نفسه .. لأنه فاقد للشيئ، وليس له بديل لما فقد، على كل حال، فإن الغيرة تفضح صاحبها أكثر الأحيان ربما بموقف أو كلمة حتى مع أقرب ناسه النفس لا تتحمل أن ترى أو تصدق أو تبصم أو تعترف ولو همسا، لأن الطاقة محدودة ولا مجال لاتساعها، ربما تعالج نفسها بستار الغموض أو التبرير ولكن ذلك لا يدوم إلا مؤقتا ..
ودعاء الامام الكاظم (عليه السلام)، فيه من المضامين العميقة، لسلخ شخص الغيور الحاسد وتعريه أمام التاريخ، ضمن كلمات مبهرة قد صفدت بسلسلة أفكار متداخلة اتصفت بالكينونية والغيبية والتي تحتاج إلى تدبر واسع وموسعة لغة فريدة من نوعها ..
"إِلهِي وَكَمْ مِنْ باغٍ بَغَانِي بِمَكائِدِهِ، وَنَصَبَ لِي أَشْراكَ مَصائِدِهِ، وَوَكَّلَ بِي تَفَقُّدَ رِعايَتِهِ، وَأَضْبَأَ إِلَيَّ إِضْباءَ السَّبْعِ لِطَرِيدَتِهِ، انْتِظاراً لانْتِهازِ فُرْصَتِهِ، وَهُوَ يُظْهِرُ بَشاشَةَ المَلَقِ، وَيَبْسُطُ وَجْهاً غَيْرَ طَلِقٍ، فَلَمَّا رَأَيْتَ دَغَلَ سَرِيرَتِهِ، وَقُبْحَ ما انْطَوَىٰ عَلَيْهِ لِشَرِيكِهِ فِي مِلَّتِهِ، وأَصْبَحَ مُجْلِباً لِي فِي بَغْيِهِ، أَرْكَسْتَهُ لأُمِّ رَأْسِهِ، وَأَتَيْتَ بُنْيانَهُ مِنْ أَساسِهِ، فَصَرَعْتَهُ فِي زُبْيَتِهِ، وَرَدَّيْتَهُ فِي مَهْوَىٰ حُفْرَتِهِ، وَجَعَلْتَ خَدَّهُ طَبَقاً لِتُرابِ رِجْلِهِ، وَشَغَلْتَهُ فِي بَدَنِهِ وَرِزْقِهِ، وَرَمَيْتَهُ بِحَجَرِهِ، وَخَنَقْتَهُ بِوَتَرِهِ، وَذَكَّيْتَهُ بِمَشاقِصِهِ، وَكَبَبْتَهُ لِمَنْخَرِهِ، وَرَدَدْتَ كَيْدَهُ فِي نَحْرِهِ".
الشخص الغيور يتمالكه شعور النقص على الأغلب لذا يسعى لإحراجك والتقليل من شأنك أمام الآخرين حتى لو فعل ذلك على سبيل المزاح قد يكون رائجا وطبيعيا لواقع هو يعيشه، ولكن ايذائك والنيل منك أمام الآخرين ليس طبيعيا بالتأكيد .
فنجاحك واجتهادك المستمر، يذكره بفشله ونقصه لذلك يتجنب التعامل معك، فهو يبرر نجاحك للصدفة والحظ أو غيرها تقليلا لشأنك وتميزك..
يسعى لإطفاء بهجتك، وقتل حماسك وشعورك الايجابي نحو عطاءاتك، استصغارا لما تقدم وتحجيم التفعيل وايداعه أسبابا غير مناسبة أو لا اعتبار لها…
الغيرة، شعور مباغت لدى البعض لأمر عارض ربما ويزول عند تفاديه بالطريقة المناسبة.. وفق برنامج روحي وترويضي للنفس ورفع قائمة الإيجابية وإشباع الذات بحديث النور ونهم الأفكار من أصل مصدرها .
"اللَّهُمَّ وَهذا مَقامُ عَبْدٍ ذَلِيلٍ، اعْتَرَفَ لَكَ بِالتَّوْحِيدِ، وَأَقَرَّ عَلَىٰ نَفْسِهِ بِالتَّقْصِيرِ فِي أَداءِ حَقِّكَ، وَشَهِدَ لَكَ بِسِبُوغِ نِعْمَتِكَ عَلَيْهِ، وَجَمِيلِ عادَتِكَ عِنْدَهُ، وَإِحْسانِكَ إِلَيْهِ، فَهَبْ لِي يا إِلهِي وَسَيِّدِي مِنْ فَضْلِكَ ما أُرِيدُهُ إِلَىٰ رَحْمَتِكَ، وَأَتَّخِذُهُ سُلَّماً أَعْرُجُ فِيهِ إِلَىٰ مَرْضاتِكَ، وَآمَنُ بِهِ مِنْ سَخَطِكَ".
وللبعض الآخر، علة مميتة في النفس، ونقص غربيل الذات لما يحدث، وتكدس النواقص على بعضها في الجوى يفرض على البدن والروح ضغطا كبيرا يتفجر بالسلب على نفسه وغيره، واستغلال الموقف وبعض أجزائه كيفما يفهمها وبالصور التي يريد .
تقول احداهن: وهي تفصح عن موقف حدث لها مع إحدى صديقاتها..
إنني انسانة عنيدة وطموحة أسعى وأجتهد لأحقق ذاتي، شغوفة بالعلم والمعرفة، أحب القراءة فهي بوابتي للسفر حيث أريد، الكتابة هي عالمي الخاص أرسمه كيفما شئت وأخلق فيه وقتما أردت.
إلا أنني انصدمت كثيرا عندما علمت أن أقرب الناس إلى قلبي وهي صديقتي التي أودعتها أسراري وكل ثقلي، كانت أول من سرق مني كل آمالي الأمر الذي جعلني أفقد الثقة بمن حولي حتى أهلي .
يشير أحد الكتّاب في مجال النفس والتطور الذاتي بقوله:
من إن معرفة أسباب الغيرة هي الخطوة الأولى التي ستبني عليها خطواتك المقبلة قد يغار البعض من اهمالك له، وآخر قد يغار من حياتك المترفة، بالطبع سيختلف أسلوب التعامل مع الطرفين تبعا لاختلاف السبب .
وينصح بتجنب العفوية في الكلام أمام الغيور، لأنه سوف يحولها إلى رواية أخرى من نسيج خياله فيقلب الطاولة عليك ويحاول ايقاعك في المشاكل سعيا منه لإحباطك وهدم نجاحك ، لأنه يسعى أن ينسب نجاحك ومثابرتك لعوامل الحظ وغيره.
الغيور، يحاول تفادي المواجهة بمن هو أفضل منه أو الاجتماع به ويتجنبه دائما بأعذار واهية.
يقول الامام الكاظم (عليه السلام) :
"إِلهِي وَكَمْ مِنْ حاسِدٍ شَرِقَ بِحَسْرَتِهِ، وَعَدُوٍّ شَجِيَ بِغَيْظِهِ، وَسَلَقَنِي بِحَدِّ لِسانِهِ، وَوَخَزَنِي بِمُوقِ عَيْنِهِ، وَجَعَلَنِي غَرَضاً لِمَرامِيهِ، وَقَلَّدَنِي خِلالاً لَمْ تَزَلْ فِيهِ، نادَيْتُكَ يا رَبِّ مُسْتَجِيراً بِكَ، واثِقاً بِسُرْعَةِ إِجابَتِكَ، مُتَوَكِّلاً عَلَىٰ ما لَمْ أَزَلْ أَتَعَرَّفُهُ مِنْ حُسْنِ دِفاعِكَ، عالِماً أَنَّهُ لا يُضْطَهَدُ مَنْ آوَىٰ إِلَىٰ ظِلِّ كَنَفِكَ، وَلَنْ تَقْرَعَ الحَوادِثُ مَنْ لَجَأَ إِلَىٰ مَعْقِلِ الإِنْتِصارِ بِكَ، فَحَصَّنْتَنِي مِنْ بَأْسِهِ بِقُدْرَتِكَ".
الغيرة، سلب وانعكاسات وجع دائم يقتل نفس صاحبه أولا، ويحجم نشاط عقله ونفسه، ويحجب نور الحقيقة وذات المعرفة، الشيطان اللعين تكبر على الله عز وجل بأن يسجد له حسدا وغيره من أسماءه وأنوار محمد وآل محمد.
الغيرة تشحذ النواقص لتجتمع على قتل الكمال البشرية، ولنا في قصص الأنبياء والأوصياء وعلى مدى العصور والأزمان المثال الأكبر .
ولازال أهل البيت (عليهم السلام) يحاربهم الضالين في كل بقاع الأرض قولا وفعلا وما ذلك إلا حسدا وغيرة لمكانهم العليّ عند الله عز وجل.
فالقلم يغار من حروف الحق، والظالم يغار من المظلوم لأنه منصور عند الله، والمرؤس يغار من رئيسه فينقلب عليه، وقليل الحظ يغار من المحظوظ والذي نال قسطا من التوفيق يغار منه المجتمع .
"إِلهِي وَسَيِّدِي وَكَمْ مِنْ عَبْدٍ أَمْسَىٰ وَأَصْبَحَ عَلِيلاً، مَرِيضاً سَقِيماً، مُدْنِفاً عَلَىٰ فُرُشِ العِلَّةِ، وَفِي لِباسِها يَتَقَلَّبُ يَمِيناً وَشِمالاً، لا يَعْرِفُ شَيْئاً مِنْ لَذَّةِ الطَّعامِ، وَلا مِنْ لَذَّةِ الشَّرابِ، يَنْظُرُ إِلَىٰ نَفْسِهِ حَسْرَةً، لا يَسْتَطِيعُ لَها ضَرّاً وَلا نَفْعاً، وَأَنا خِلْوٌ مِنْ ذلِكَ كُلِّهِ بِجُودِكَ وَكَرَمِكَ".
الغيرة ممدوحة إن لم تستنقص من حق الغير ومحاولاته، وأن لا يجعل من همم الآخرين سلما لنجاحاته، أن يكون غيورا على دينه من دنس الفوضويين، وضجيج أفكارهم السامة، أن يسابق الغير في العطاء وينافسهم في الله عز وجل، أن يبدع في إنجاز نشاطاته من بوابة التقى والحرص على المضامين الإلهية، أن لا يتقمص الرياء ويبذل ما عليه فعله وأن لا يتكئ على عصى الحسد في بلوغ مراميه، أن يسعى لتربية نفسه ويجمّلها بعافية القرآن وشفاء الحديث .
أن يجعل من سلوك الآخرين مرآة لسلوكياته ويسعى لصقلها وصبها بالمفهوم القويم، لا إن يحارب غيره عليها .
أهل البيت (عليهم السلام) وذريتهم ابتلاهم الله عز وجل بعين الغيرة والحسد وعاشوا ألمها، قتّلو، شردو، وظلمو كل ذلك من غيرة وحسد المقربين منهم قبل غيرهم.
وما من نائبة تصيب أهل الذكر من العلم والعلماء في الزمن السابق واللاحق، ماهي إلا ضعف أهل الجوار ممن يعاصرهم، وغيرة أنفاسهم الخبيثة لذوي الأنفاس الطيبة.
تعد الغيرة غريزة طبيعية في الحياة الاجتماعية ودوراً هاماً في الحفاظ على العلاقة الأسرية إذا كانت ضمن الحدود الطبييعية، أما إذا تحولت إلى هاجس مرضي، فيمكن أن تتسبب بدمار الأسرة وتشتت مبادئها .
إنها حرب ابليس اللعين وأعوانه من الجن والانس، على عباد الله المؤمنين ليبقى الوشاح الأصفر ثوب الذل الذي به يوصفون .
اضافةتعليق
التعليقات