القصة الفائزة بالمرتبة الأولى في مسابقة القصة القصيرة المقامة على هامش مهرجان أفق الانتظار وبناء الأمل ٤
خطا بضع خطوات متئدة نحو بقعة الضوء الثابتة على خشبة المسرح، وفرة الأصوات وبلبلتها تبدلت في ثوانٍ إلى هدوء وترقب يلفان المدرجات المكتظة بالجمهور، وقف شامخا وهو يؤدي دوره بإتقان مبهر، وكأنه قد قضى عمره في ممارسة الإلقاء، كان أشبه بنسر جامح على قمة الجبل الأشم!!
تجاوز (وهاب) أعوامه الأربعة عشر شكلا ومنطقا، يا له من رقم يوحي بدلالة جميلة لمن عاش حياة طبيعية، بل هو يحمل في طياته دلالات مغيّبة تتجاوز حدود المدركات!! ... غير أنه شكّل للفتى المراهق لقطات مظلمة في دهاليز ذاكرته النابضة بالحياة... وأي حياة تلك التي تطبق على الأنفاس لتختنق وتتعثر في ركام المخاوف؟ وأي حياة تصبح فيها الإنسانية حليفة للمنايا وغرضا للحتوف؟
بدأ حديثه بثقة عارمة، بينما عيناه اللامعتان مسمرتان نحو اللا مكان، وكأنهما تمتشقان البرق حساما:
- كيف يكون شعور الإنسان إذا تفتحت عيناه في ميتم؟ أو كيف يجب أن يكون إحساسه وهو يتيم الأبوين؟
حقيقة أقول لكم لم أشعر باليتم قط!! ... ربما تستغربون قولي، لكني فعلا لم أشعر به... مذ أدركت أن لي وجودا وكيانا تيقنت أني بلا أبوين حيين، ومن البديهي أن من لا يتذوق ألفة الأسرة يهون عليه الفقد، هذا ما اعتقدته قبل أن أعرف السبب لاحقا!!
ترعرعت في الموصل بين أقراني، كنت المحظوظ الوحيد الذي لا يتذكر أمه أو أباه فيبكيهما، لذا أخذت مهمة التنفيس عمن حولي بدعاباتي وشقاوتي المعتادة، وكم امتزجت دموعهم بضحكات عفوية إثر طرفة ألقيها، بعدها أفر هاربا من صفعة محتملة، فالبعض يعد التأدب في حضرة الحزن أولى من محاولات تسخيف الآلام، وقد تبنيّت هذه النظرية فيما بعد، حين أصبح اليتم سببا في اشتعال المزيد والمزيد من نيران الأسى..
التقط (وهاب) نفسَا عميقا كمن يستعد للغوص في بحر طامٍ، تتنازعه هواجس الماضي الأليم، وهو يستحضر كل الصور والأحداث، يبدو أن شيئا اغتال بقايا فرح هادنه في سريرته، حاول اختزال آلامه بنبرة عميقة:
- هجوم لتنظيم داعش حولني وأصحابي من صغار مشتتي الماضي والمصير إلى جنود يحملون هدفا واحدا كبيرا... كبيرا بما يكفي لجعل آلاف الأطفال أيتاما مثلنا بالضبط!!
دقائق محفوفة بالحذر مرت على الجمهور المتوجس، هل ما فهموه كان صحيحا أم خيّل لهم أنه يتحدث عن القتل؟
-نعم... نعم بلا أدنى شك، الأحزمة الناسفة والمتفجرات أصبحت لعبنا الجديدة، نتسلى بها ونتدرب كل يوم على استخدام الأسلحة بشتى أنواعها، بينما يقومون بملء أدمغتنا بأفكارهم الشيطانية العفنة، وأنى لأمثالنا أن يخالفوا تعاليمهم اللعينة؟
بغتة رفع (وهاب) ذراعه وشمّر عنها في حركة مفاجئة أرعبت الحاضرين، لكنه سرعان ما أكمل وهو يتحسسها:
- ما زالت الجراح تضج بصمت على ذراعي، وآثار السياط تحفر العذاب خريطة على ظهري، كان مجرد استفسار لا اعتراض قمت به عفو الخاطر، ألا يحق لي السؤال عن صديقي المقرب؟ عرضوا علينا فيلما مصورا وهو يقوم بعمليته الأخيرة، يشاهدونه والضحكات تعلو وجوههم المقززة، ونداء (الله أكبر) يهز قلوبنا المذعورة.
كل ليلة ظل الفلم يراودني، صديقي يتمزق مرة بعد مرة، تكرر الكابوس كثيرا و لم أتمكن من منعه، ولطالما استيقظت في سكينة الليل مرتعد الفرائص كغصن طري، ولوهلة ظننت أنها رسالة يريد إخباري بها أن أقوم باللحاق به!!
اشتد رعب الحضور، وهالهم ما سمعوه، أخذ كل شخص ينظر لمن يجاوره نظرات هائمة مترددة، يبدو أن موائد الفجيعة لا تنفد، التفجيرات تقدم الأرواح قربانا، وتغسل الأزقة بالدماء البريئة علّ نهم القتل المتنامي من عصر قابيل يهدأ، لكن هيهات أن يهدأ... وها هم الأشرار يعزفون أناشيد الجحيم بقيثارة التوحش والهمجية.
ومع استشعار وهاب بتوتر الجمهور أردف قائلا:
- فصل آخر ظننا أننا سنعيشه مع دخول قوات الجيش العراقي والحشد الشعبي إلى مناطقنا، إلا أن أملنا بالخلاص ولد ميتا، إذ قام التنظيم بنقلنا إلى سوريا، وهناك ساء حالنا وتدهور بدمجنا في معسكراتهم، وجزمنا أن لا مفر لنا ولا ملجأ، فخفقت قلوبنا بتذكارات الحنين للميتم، نحلّق بالخيال نحو عالم يسوده النور، ويضيء السواد الذي يلفنا بأشعة النجاة، خلال ذلك جاءني صوت صديقي هادرا، لم يكن كابوسا هذه المرة، بل صوتا واقعيا صُبّ في أذني المثقلة بنحيب الموت، جاهدا حاولت كتمه، فما كان له إلا أن يزداد قوة وحدّة:
- كن جنديا يا وهاب، كن جنديا في معسكر الهدى لا الضلال...
- أرجوك دعني وشأني يا أيمن، ألم تكفك كل الليالي، أنت الآن تنغص علي نهاراتي أيضا.
أغلقت أذنيّ بيديّ عساي أخرس صوته المزمجر، لكنه ظل يكرر جملته مرارا وتكرارا، فسألته:
- عن أي معسكر تتحدث؟ أنا لا أرى سوى هؤلاء الوحوش يرتدون الظلام، ويتحزمون الحقد والكراهية.
- معسكر الهدى يقوده الرابع عشر
سألته والاستغراب يستبد بملامحي:
- من هو الرابع عشر؟
ومع خفق أقدام أحدهم بالقرب مني اختفى الصوت، ولمّا أعرف الإجابة بعد، واختفت الكوابيس منذ ذلك الوقت!!
لكن سر الرقم بقي يحيرني لمدة طويلة، ولم أنسه مع توالي الأيام وقسوتها... وتلجلج في صدري سؤال خجول... أيقبل الهدى شخصا تدرّب في أحضان الشر والضلال؟!!
ما هي إلا بضعة أشهر مرت بثقل مفرط حتى مسحت علينا يد العطف الإلهي قبل أن تتعشعش أفكار الباطل في رؤوسنا، إذ تمكنت فصائل الحشد من تحرير الأرض من دنس الأوباش.
تفاعل الجمهور الغفير وتعالى صوت التصفيق، لقد فر الأوغاد كحمر مستنفرة من الأسود الأبطال، وتهاوت صروحهم الهشة، فاستحالت يبابا تحت أقدام الحق، أضاف وهاب والسرور يعلو محياه:
- كانت العودة والسكن في ميتم جديد في كربلاء المقدسة معجزة مستحيلة قد تحققت، وتطلّب الأمر علاجا مكثفا لجسدي وروحي وحتى فكري أيضا، وما إن هدأتْ واستقرت كلها وانقشعت الحجب عن بصيرتي، حتى شرعتُ برحلة البحث عن لغز الرقم، واكتشفت بمساعدة المرشدين عظمته، أخبروني إن قائدا يأتي في آخر الزمان، سلاحه النور، يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا، حيث تمس قدمه المباركة تنبثق الحياة ويتلألأ الهدى، ويعم الأمان في مرابع الأوطان، حينها يزهر السلام حتى تصطلح السباع، وترعى الشاة والذئب معا، ويلعب الصبيان بالحيات والعقارب لا يضرهم شيء، وتمشي المرأة من العراق إلى الشام لا تضع قدميها إلا على النبات لا يهيجها سبع ولا يخيفها، وفي عصره يموت الفقر وتحيا العدالة، ولطلعته الغراء يتلهف كل المؤمنين الشائقين، أخبروني إنه المعصوم الرابع عشر، وهنا اكتشفت سر الرقم وأي معكسر يعنيه أيمن، أخبروني إنه يقول:
-(إنا غير مهملين لمراعاتكم، ولا ناسين لذكركم، ولولا ذلك لنزل بكم اللآواء واصطلمكم الأعداء).
وهنا فقط اكتشفت لماذا لم أشعر باليتم أبدا !!
انحنى وهاب بايماءة لطيفة خاتما كلامه، وبحرارة وحب صفق الجمهور، وقفوا كلهم إجلالا وإعجابا به وبطريقته الرائعة في الإلقاء رغم كونها تجربته الأولى، نال حينها مرتبة التميز في المسابقة المخصصة للأيتام... بعدها ذهب الجمع لبيوتهم وأكناف عوائلهم، بينما ذهب هو بسعادة غامرة لحضن ميتمه الجديد حاملا معه أملا كبيرا..
اضافةتعليق
التعليقات