في سكون الليل السرمدي، حيث تتوشح السماء بحلكةٍ مُطبقة، وتتوارى النجوم خجلى خلف حُجُب الغياب، هناك قلبٌ ينبض بإيقاعٍ فريد. قلبٌ لم يعرف اليأس سبيلاً إليه، ولم تستطع رياح الفقد أن تُطفئ جذوة الأمل المتأججة في أعماقه. كان ينتظر، لا ينتظر عودة غائبٍ فحسب، بل ينتظر انبلاج فجرٍ جديد.
هكذا كان قلبها في كل يومٍ يمر، يتلوى حُزناً، ينتظر فجراً يحمل معه طيفَ الموعود، ذاك النور الذي وُعِدت به أرواحُ التائهين. في كل ذرةٍ من كيانها، ترتسم صورةٌ باهتة لوجهٍ لم تره العيون بعد، لكنه حاضرٌ في الوجدان حضورَ اليقين في قلبها المؤمن، كهمسةٍ سرمدية تتردد في دهاليز الذاكرة، تعد بلقاءٍ قريب، بزمنٍ يزهر فيه العدل، وتُروى فيه ظمأ القلوب المشتاقة.
جلست نرجس في أرجوحتها التي تُصدر صوتًا من شدة الصدأ الذي يكسوها، تُناجي سيدها في كل جمعةٍ تمر:
أيُّها العزيز جداً، ها أنا وها قلبي الذي يئن كأرجوحتي من الصدأ...
سيدي: ﴿إِذا نودي للصَّلاة من يوم الجُمعة﴾، فؤادي يقف مكسورًا عند كُل مفترق،
ينظرُ في صفحات وجوه العابرين، ليستعير من ملامحهم تفاصيلَ تشبهك، علَّه يخيط بها جرح غيبتك.
أيُّها العزيز...
ثم سكتت لحظة، تخيط بها جرح الغَيبة: أهو جرحي أم جرح قلبه؟!
تساءلت، ثم أجهشت بالبكاء.
إن الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) ينتظرنا أن نُخيط جراح قلبه، التي كان سببها تقصيرٌ منّا، ذنب، ظلم، أخذ حق الغير، وغيرها من الجراح.
فهناك يتربع وعدٌ عتيق، يضيء عتمة الدروب بنوره الخالد. وهو ظهوره، الذي تستطيل إليه الأعناق، وتهفو إليه القلوب الظامئة وتُروى، كما تُروى الأرضُ الجدباء بغيثٍ يروي عروقها المتيبسة.
ثم نرى صدىً لاسمه يتردد، على شفاه المنتظرين بدمعة، بعد أن عاشوا حكايةَ اشتياقٍ دفين، ليحكوا عن زمنٍ مثقلٍ بالغياب، وعن أملٍ يلوحُ في الأفق البعيد، كفجرٍ يبزغ بعد ليلٍ طويل.
لا بد أن نشعر بالمسؤولية تجاه الغَيبة، ففي خضم هذا الزمن البائس، حيث تتلاطم أمواج الفتن، وتشتد رياح الظلم، وتغيب معالم الحق، وتُرفع رايات الباطل، تزداد حاجتنا لإمام الزمان، المهدي المنتظر، أمل المستضعفين ومنقذ البشرية.
إن هذا العصر الذي نعيشه، كما نرى، تميز بتفشي الحروب والنزاعات، وتصاعد وتيرة العنف والإرهاب، وتعمق الانقسامات والفتن بين الناس. لقد طغت المادية على الروح، وانتشرت الأنانية والجشع، وتلاشت القيم والأخلاق. أصبح العالم مسرحًا للصراعات على السلطة والنفوذ، ودفع الأبرياء ثمنًا باهظًا لهذه الصراعات.
نشعر بالمسؤولية حينما نأمل الظهور ونعمل عليه. فبعد هذا الظلام الدامس، يلوح في الأفق نورٌ خافت، إنه الأمل بظهور الإمام المهدي، الذي سيملأ الأرض قسطًا وعدلاً بعد أن مُلئت جورًا وظلمًا.
إنه المنقذ، الذي سيقيم دولة الحق الإلهي، ويوحّد صفوف المسلمين، بل وجميع المستضعفين في الأرض، تحت راية العدل والسلام.
إن انتظارنا للإمام لا بد أن يكون ليس مجرد حالة من الترقب، بل حالة من الاستعداد الروحي والأخلاقي والعملي. إننا مدعوون لأن نكون جنودًا مخلصين للإمام الغائب، بأن نسعى جاهدين لتطهير أنفسنا من الرذائل، ونلتزم بالقيم الإسلامية الأصيلة، ونعمل على نشر الوعي والإصلاح في مجتمعاتنا.
إن حاجتنا للإمام في هذا الزمن البائس، هي حاجة ماسة للعدل الذي يرفع الظلم، وللسلام الذي يحل محل الحرب، وللحق الذي يدحض الباطل، وللأمل الذي يبدد اليأس. إنها حاجة إلى قائد ربّاني يقودنا إلى برّ الأمان، وينتشلنا من براثن الفتن والضلال.
اضافةتعليق
التعليقات