جالسة وغارقة في بحر احزانها، مسجونة بكرسي العجزة، نار تحرق قلبها فتصبح نبضاته رمادا، عينان تنطِق اليأس، وجع يريد أن ينطق! وقت طويل وهي لا ترى من الدنيا فرحا، رفعت يدها للسماء أحسست بشعور لا يوصف، ترتل الاذكار ودموعها تغسل وجهها الشاحب.
ذاك المنظر احزن قلبي، فلكل ذكر ترتله كان حكاية عن جسد ممزق، و أنا واقفة أرتّل معها كل حرف وكلمة، توقفت عن الذكر، نظرت الى السماء وكأنها تودع تلك الاذكار لبارئها، تتبعثر معان كثيرة فينا عندما ندعو الله ونحن في ضيق، وقفت وانا حائرة لا اعلم ماذا افعل؟ لم اعد ادرك معنى السعادة؟ أو أن اكمل الزيارة المقدسة.
أمست عيني تحبس دموعها خوفاً من أن تذرف أمامها فتنزف وجعا، أما قلبي يسحب بسلاسل من حديد، حتى آذاني صُمّت عن سماع كل ما حولها، سوى تراتيل هذه المرأة من آهاتٍ مكسورة!! تشدني كلما تقدمت خطوة، أسترق إليها النظر بدقة متعمدة، كُسرَ الأمَل والحلم يتَلاشى في العشرين من عمرها، جميعُ السنين ضائعة، وأحلامِ مُقيّدة بِها، تدور أيامها كما تدار الساعة.
سبعة اعوام مضت والمرض معها، فتاة مازالت تُكابد الحياة لأجل البقاء راضية بقدرها، ربما لأنها تخشى أن لا تعيش إلا نصف الحياة، وربما لأنها مازالت تخاف الرحيل دون ان تسمع كلمة ماما، تخشى ذلك كَثيرا فتردد تلك الكلمات المُوجعة، يلتهم المرض أنفاسها، تَشعر بأن شيئاً من العالم يسقط كلما سقطت شعرة منها!.
تَشعر بأن الجدران المكان تسمعها، يدفع الكرسي الجالسة عليه رجل كبير انحنى ظهرة من اجل ابنته العليلة، أنفاسهم ببطءٍ ملغوم، و ينتهي بهم المطاف عند ضريح السيدة، لا يرى منهم شيء، لا شيء سوى جسد يدفع جثمان، الـمبكي، أنك تَشعر بروحك تقترب منهم، تود لو أنك تدفع الكرسي بدل ذلك العجوز، انحنى عند عتبة الباب، قبلّه ومسح التراب على جبهته، عند باب المقام يحلو السلام، لو كشف لك الغطاء لرأيت صفوف الملائكة وهم يحلّقون حول المقام.
توقف الرجل الكبير فلا يسمح بدخول الرجال من هذا الباب، ارتخى قليلا، شعر بضيق من الصعب جدا ان يترك هذه الشابة ويدخل للزيارة، ولا أصعب ان يرجع من دون تقبيل الضريح ولمسة الشباك، فهو اكثر شيئ يجعله يشعر بالأمان، قلبه يرفض الخروج، وجسده يمسك بتلك العربة.
لم استطع التحمل، تقدمت نحو الرجل العجوز، وعرضت عليه ان اتولى أمر هذه الفتاة العاجزة، وهو يذهب للزيارة، برداء ثوبة مسح دمعاته، انها مصابة بمرض السرطان، منذ سبع سنين والى يومنا هذا، عجزت عنها الاطباء، لم يعد ينفع معها العلاج الكيميائي، وامها توفيت من أثر حزنها عليها. طرقت باب صاحبة هذا المقام ان تشافي أبنتي، اختفت عبراتي وكأنها تجمدت، واختنقت الكلمات، مسكت بالكرسي وادخلتها للمقام، وذهب الرجل من المكان المخصص للرجال، نظرات الناس تتسارع لها، مسافة تبعد الالتصاق جسدها بالضريح ولكنها أطلقت روحها لتعانق الضريح.
وما من مريض زار قبرها الشريف، إلا وعاد مسرورا إلى أهله شاكرا الله تعالى على نعمة الشفاء، لعل الله يمنّ على هذه الفتاة بالشفاء العاجل، يغص المكان بالزائرين وأصحاب الحوائج، ولا يكاد ترى الجدار من العبارات، بعد الزيارة خرجت وانا ادفع ذلك الكرسي لأول مرة في حياتي.
ماان رأيت ضوء الشمس في الصحن الشريف حتى ظهر أمامي الرجل العجوز وهو يحمل حذاء ابنته بيده، اسرع لي شاكرا، لا يعرف كيف يوصف شعوره، فكانت كلمة شكرا تعطي الكثير من المعاني، دعوات الله أن يكتب لها الشفاء العاجل، وأن يرجعهم مسرورين.
علمت انهم يقضون ليلتهم هنا في ضيافة صاحبة المقام، أكملت زيارتي وخرجت مع عائلتي إلى السيارة بعدما كتبت اسم الفتاة الكامل وعمرها، استودعتهم عند الله الذي لايضيع ودائعه..
مرّت الأيام وليس في بالي غير تلك الفتاة المريضة، بعد شهور رزقني الله زيارة المقام مرة ثانية، في طريقي إلى المقام وانا اقرأ عبارات الشكر التي كتبها أصحاب الحوائج المقضية لصاحبة هذا المقام، هنالك قطعة قماش بيضاء مزخرفة وعليها بعض من النقود تقربت منها قليلا، إنها معجزة ، يا الله، الفتاة التي رأيتها في الزيارة الماضية والتي كانت مصابة بالسرطان، تماثلت للشفاء، وهذه أوراقها الطبيبة تؤكد ذلك، فرحت كثيرا، ورسمت في ذهني صورة أبيها، فرحت كثيراً.
لعلكم تسألون أيها الأحبة أين يقع هذا المقام ومن هي السيدة؟
يقع المقام في وسط واحة من النخيل في أطراف مدينة الحلة، نحو 7 كيلو مترات عن شارع حلة كربلاء، فيما تبعد نحو 9 كيلو مترات عن مركز مدينة، فكرامات صاحبة المقام العلوية عظيمة والقصص عنها كثيرة، منها شفاؤها للأمراض بإذنه تعالى، وأشهر هذه القصص وحسب ما رأيناه بأعيننا هذه الفتاة العاجزة التي أحضرت إلى المزار، وقد تكررت هذه القصة عدة مرات، لذلك فإن قُطع التشكرات التي تعلق خارج المزار كثيرة جدا.
أما صاحبة المقام فهي؟..
السيدة (شريفة) بنت الحسن بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام)،
العلوية (أم هادي) وهي الكُنية التي تكنى بها العلوية شريفة.
وتشير المصادر التاريخية إلى أنها كانت طبيبة في واقعة الطف، وبعدها رحلت مع ركب السبايا إلى الشام بعد واقعة الطف 61 هـ فاشتدّ بها المرض وفاضت روحها ودفنت في منطقة وسط بستان من النخيل، ورغم بعد قبرها عن كربلاء، إلا إن المحبين يقومون بزيارتها في مقامها و يحيون امرهم عند ضريحها، وسميت بطبيبة العلويين للكرامات التي حصلت لزوارها.
اختلفت المصادر فهناك من يقول إلى أنها ترجع في نسبها إلى بضعة عشر ظهراً وصولاً الى الإمام الحسن (عليه السلام )، وعلى رغم الاختلاف في نسبها، فإن هناك اتفاقا على كرامتها التي حباها الله إياها في شفاء المرضى وقضاء حوائج المحتاجين.
تلوح قبتها ذات اللون الأخضر المائل إلى الازرق وقد اتكأت بهدوء على مجموعة من أخواتها العلويات، وما أن تقطع أمتاراً قرب المرقد، حتى تكاد تزاحم بصرك لافتات معلقة على جدار شبكي حديدي، لافتات تضمنت عباراتِ شكرٍ وامتنانٍ لمرضى برئوا من أمراض مستعصية.
الناس هنا قد ألِفوا رؤية المعجزات، وقد عرف عن مقامها انه مكتظ بالزائرين والأسر اللاهفة نحو الأمان والعلاج، بعيدا عن ضجيج العيادات الطبية، فتسر خاطرك تلك المناظر الطبيعية، والعلاج المجاني، فترجع مسرورا كما ورد في زيارتها: السلام عليك ياطبيبة المعلولين، السلام عليك ياقاضية حاجات الطالبين، السلام عليك يامن ارجعت المرضى مسرورين، السلام عليك يا من فضائلك اعجبت السامعين والناظرين، السلام عليك ياصاحبة المنزلة الراقية والمكانة العالية، جئتك قاصدا حرمك الشريف متوليلا الى الله تعالى بك لقضاء حاجتي وان لايحرمني اجرك وثوابك، والسلام عليك ياسيدتي وعلى ابائك وابنائك واخوانك واخواتك اينما كانو في مشارق الارض ومغاربها ورحمة الله وبركاته.
اضافةتعليق
التعليقات