لم أُولد في حضن دافئ، ولم أعرف العائلة كملاذٍ آمن يُرَبِّت على ظهري إن بكيت. نشأت في بيتٍ لا تلتقي فيه الأرواح، بل تتصادم. بيت كان يبدو من الخارج عاديًا، لكنه من الداخل كان يموج بالعواصف. نشأت تحت سقفٍ يعلو فيه صوت الغضب على صوت الضحك، وتعلّمتُ مبكرًا أن ألتقط أنفاسي بين جملةٍ غاضبة ونظرةٍ منكسرة.
كان كل شيء يبدأ بصراخ أبي، ثم تنهال الكلمات، تليها الأبواب تُغلق بعنف، ثم صمتٌ ثقيل، لا يقطعه إلا بكاء أمي المختنق.
كانت أمي امرأة قوية، على الأقل في نظر الآخرين. لكنها في نظري كانت امرأة مثقوبة؛ كل معركة تخدش فيها شيئًا جديدًا. كنت أراها تنكمش بعد كل شجار، ثم تقسو علينا نحن أبناؤها.
كنا ضحية قسوتها التي لم نكن نفهمها آنذاك، لكننا كنا نغفر لها دائمًا، لأننا كنا نراها تبكي وحدها، تنكمش في الزاوية وكأنها تلمّ شتات نفسها، ثم تعود لتحضننا رغم جراحها. حضنها كان مخدوشًا، لكنه كان الحضن الوحيد الذي نعرفه، وكان يتّسع لنا رغم ضيق الحياة.
أما أبي، فكان حكاية أخرى. كان له حضور طاغٍ، وصوتٌ لا يُرد، ونظرة تحمل الهيبة والحنان معًا. كنتُ أُحبه. نعم، أحببته رغم كل شيء. كنت أحتاجه، أفتقده، أبحث عن دفئه.
كان يفترض أن يكون ظهري، سندي في الحياة، لكنه لم يكن حاضرًا إلا بقوانينه الصارمة، وأوامره، وصمته الطويل حين نحتاج إليه.
في داخلي كان صراعٌ مرير. كنت أرى أمي ضحية، وأبي غريمها. لكنني كنت أحب أبي، وأتوق إليه. لم أكن قادرة على الحديث. كنت أختنق بالمشاعر، بالكلمات، بالأسئلة التي لا جواب لها.
لماذا يتشاجران؟ لماذا كل هذا العنف؟ لماذا لا نعيش مثل باقي العائلات؟
كنا كالأسرى في بيتٍ لا أبوابه مفتوحة، ولا جدرانه تحتضننا.
مرّت السنوات وكبرنا. كبر كل واحدٍ فينا وبداخله جرحٌ غير مرئي، لا نعرف كيف نلمسه، ولا كيف نداويه.
أصبحنا نرتبك أمام فكرة العائلة. نخاف من الحب، من الارتباط، من أن نُعيد ذات الحكاية مع أطفالنا في المستقبل.
أصبحتُ أنظر إلى الزواج كهاوية، لا كملاذ. لم أعد أؤمن أن البيت يمكن أن يكون وطنًا، أو أن الرجل يمكن أن يكون سندًا.
كل ما عرفته من الزواج كان وجعًا متكررًا.
ومع الوقت، بدأت أُدرك الحقيقة:
لم تكن أمي ضعيفة، ولم يكن أبي وحشًا. كانا مجرد شخصين لم يُحسنا الاختيار. شخصين التقيا في لحظة خاطئة، وظنّا أن الحب وحده يكفي.
لكن الحب بلا تفاهم، بلا وعي، بلا استعداد نفسي، يصبح عبئًا. يتحوّل إلى ساحة حرب.
رسالتي إلى كل امرأة:
يا من تحملين حلم الحب في قلبك، تمهّلي. لا تغرّكِ الكلمات، ولا النظرات، ولا الحضور الطاغي.
اختاري شريكك بعقلٍ واعٍ، وقلبٍ يقظ. لا تكتفي بأن يكون وسيمًا، أو قويًّا، أو ناجحًا.
انظري إلى روحه، إلى طريقة تعامله مع الغضب، مع أمه، مع الحياة.
هل لديه استعداد لأن يكون أبًا حنونًا؟
هل يُصغي إليكِ حين تتكلمين؟
هل يحترم ضعفك أم يستغلّه؟
هل تشعرين معه بالأمان؟
هذه الأسئلة هي ما يبني بيتًا، لا المظاهر ولا الوعود الكبيرة.
لأنك حين تختارين شريك حياتك، لا تختارين زوجًا فقط. بل تختارين ملامح الجيل القادم.
أطفالك لن يعرفوا شيئًا عن الحب إن لم يعيشوه. لن يعرفوا الأمان إن لم تزرعيه معهم، منذ اللحظة الأولى.
كوني حكيمة في حبك. لأن الحب الحقيقي ليس ورديًا دائمًا، لكنه صادق، دافئ، عادل.
اختاري من إذا غضب، لم يجرح، وإذا تعب، لم يهدم، وإذا خاصم، لم ينسَ المعروف.
فالعائلة ليست مجرد أوراقٍ وعقود، بل تربة تُنبت إنسانًا جديدًا:
إما أن يكون متزنًا، محبًا، واثقًا… أو أن يحمل في داخله عقدًا يصعب على العمر كله مداواتها.
اضافةتعليق
التعليقات