تنظر الى ابوابها المغلقة قد تجمع الغبار عليها فهي لم تُفتح منذ زمن، تقف امامها وقد حملت بين يديها مفاتيحها تحركها كالدولاب الدوّار في مدينة الملاهي ذي المقصورات العديدة التي تتناوب بين صعود وهبوط حول محور أفقي، ما تزال الحلقة المعدنية تدور حول سبابتها، تتباعد مفاتيحها بفعل الدوران المنتظم، وعند اصطكاكها ببعض تصدر رنيناً كأصوات ضحكات الأطفال، لتأتي لحظة التوقف الفجائي، وهنا تحلّ صرخات الفزع ، ينفلت المحور من مكانه، وترميها باتجاه الأرض، انها مفاتيح الماضي..
مفاتيح ايام اخذت الشباب معها بعيدا، مفاتيح غرف لأولادها الذين اختاروا الهجرة وتركوها تنعى اياما رحلت ولم يبقى منها سوى بقايا دمى وصور معلقة على الجدران في كل مكان،
لكن اليد التي قذفت تلك المفاتيح تعود لتنقض عليها انقضاض وحش على فريسة، ويعلو صراخ المفاتيح بهلع، ليصمتوا بعدها في باطن يدها التي تعتصرهم بقهر كل سنوات عمرها…
لا لن افتح الابواب حتى يعودوا،
وتعود ادراجها في كل مرة همّت بها ان تفتح ابواب غرفهم.
منذ سنوات وهي تعيش لوحدها بعد ان توفى زوجها وهاجر اولادها، تأكل ولاتشتهي الطعام وتتمدد على السرير وهي لاتنوي ان تغمض عينها، تشعر بأن وجودها في عالم الدنيا لامعنى له، وازداد شعورها بالحزن اكثر بعد ان تقاعدت من العمل وقد كانت تشغل وظيفة محترمة، تشعر وكأن الجميع تخلى عنها بعد ان هاجر اولادها الثلاثة ليستقروا في دولة بعيدة جدا: (ملعونة هي هجرة الشباب الى بلاد الغرب).
في بعض الاحيان تحدث نفسها؛ لو يطرق الموت بابي سيجدني على استعداد، ارتديت كفني منذ زمن فقد سأمت العيش وحيدة ثم تعود لتستغفر.
تعيش في بيت كبير لاتسمع فيه صوت ولاترى فيه احد سوى خيالها المحدودب الظهر، تتلفت هنا وهناك علها تلمح شخص احدهم عاد لينتشلها من الوحش الذي باتت تعيش بين فكيه، انها (الوحدة)
عبثا تحاول نسيانهم وتحاول ان تعيش بقايا ايامها كما تمني نفسها بالموت، تارة تقف امام الابواب الموصدة واخرى تقلّب صورهم، وعندما تتذكر جفائهم، هربا من البيت تخرج الى الحديقة ويتكرر الهرب كل يوم عند الغروب، فعيونها الذابلة لم تعد تقوَ على النظر مع وجود الشمس من كثرة البكاء.
تحدّق بالسماء.. انه هلال شهر رمضان توسط السماء، تتنهد اسفا على ايام جميلة رحلت، اغرورقت عيونها بالدموع، تعود الى داخل البيت تشغل التلفاز انه وقت برنامجها المفضل برنامج (الاستفتاءات الشرعية)، هذه المرة تناولت الهاتف لتتصل بالشيخ.. ها هو يرن، علها تجد حل لمشكلتها وهاهي تتحدث من جديد لعل شهر رمضان يبث بها الأمل بعد ان ملأ البيت وجدرانه ذاك الصمت المطبق، منذ زمن لم يسمع في هذا البيت سوى صوت التلفاز يقرأ القرآن والادعية.
اجابها الشيخ بعد ان اغلقت الهاتف واقتربت من التلفاز اكثر لتسمع بما سيجيبها وهل لمشكلتها حل؟!
ان شهر الله قد اقبل وسنكون في ضيافة الرحمن اطلبي من الله ان يرجع اليك اولادك، واجتهدي بالدعاء في ليلة القدر فأن الله يقدر فيها على العباد ارزاقهم وآجالهم وكل مايتعلق بعامهم القادم، اكثري في هذا الشهر من قول الاية الكريمة: (رب لاتذرني فردا وانت خير الوارثين)، واكثري من الدعاء لك ولأولادك حتى يمنّ الله عليك بالاجابة.
وظلت تدعوا الله ليلا ونهارا، حتى ليلة القدر اكثرت فيها الدعاء الى المؤمنين وتوسلت الى الله ان يمنّ عليها بعودة اولادها سالمين يملؤون البيت من حولها وتعيش بقايا ايامها الى جانبهم.
وفي اليوم الاخير من شهر رمضان وبينما كانت جالسة على السجادة مستقبلة القبلة واذا بها ترى اولادها وزوجاتهم واحفادها قد وقفوا امامها من جديد، لم تتفوه بأي كلمة، خرت ساجدة تشكر الله ان استجاب لدعائها ومنّ عليها بعودة اولادها سالمين، وما ان رفعت رأسها حتى علت اصواتهم: أماه.. ملعونة هي الغربة التي تبعدنا عنك سنعيش معك ولن نرحل مجددا..
وهاهو العام الثاني الذي يمر على عودة اولادها من الهجرة وهي تنعم بوجود اولادها واحفادها الى جانبها ولم تبق من ايام الوحدة سوى الذكرى، ببركة الدعاء في شهر رمضان غير الله حالها وحال اولادها.
نسأل الله ببركة شهر رمضان ان يمنّ على بلادنا بالأمن والامان ويقدّر لنا النصر في هذا العام.
اضافةتعليق
التعليقات