ما دامت العصبية تجد لحمتها في التعصب الذي يتجلى في الانشطار الانفعالي ما بین داخل طيب وخير ومثالي، وخارج سيئ وشرير ومهدد، فإن العلاقة ما بين الداخل والخارج ستختل حتماً. فبدلاً من أن تكون الجماعات والفئات المجتمعية في حالة تنافس وتفاعل وصراع خلاق، كما هو شأن النظم المفتوحة على الخارج والتي تتغذى منه وتغذيه، تتحول العلاقة إلى صراع وجود، وعداء.
وهنا يتحكم بالعلاقة قانون الغلبة، العصبية ذات الشوكة الأقوى هي التي تغلب وتسود وتبسط نفوذها من خلال إلغاء الأطراف الأخرى. وإذا لم تتم الغلبة فإن سجل الصراع يفتح كحالة دائمة تستنزف البشر والموارد في حالة من العداء الدائم؛ حيث كل عصبية ترى في الأخرى تهديداً لها وعقبة وجودية إزاء توطيد كيانها. وقد يحدث نوع من التوازن الذي يتمثل في اقتسام المغانم، ويتحول الوطن وموارده إلى مجرد مرعى وعين ماء، تحاول كل عصبية أن تستأثر لنفسها منه بأكبر قسط من الغنم، كما قد تتخذ العلاقة مع الخارج شكل التحالفات في صراع العصبيات المتحالفة ضد خصومها.
أما في الحالات القصوى فإن سجل حروب التصفيات العرقية أو الطائفية (تبعاً لطبيعة العصبية) هو الذي يفتح فيما أخذ يعرف باسم «حروب الهويات».
في كل هذه الحالات تجد العصبية في لحمة التعصب والانشطار الانفعالي داخل الخارج مبرراً لحروبها وصراعاتها المشروعة. وما يؤذي في هذه الحالة الكيان الوطني ذاته، بما هو إطار جامع يوحد التنوع والاختلاف، ضمن هوية وطنية ومشروع كيان يجد الجميع مكاناً لهم فيه، مع الاحتفاظ بخصوصياتهم الفئوية ومصالحهم في التنافس والصراع ضمن المجال العام الجامع.
العصبيات يمكنها بناء سلطات ولكنها لا تبني وطناً يتجاوزها. ذلك أن مفهومها للمجال الحيوي لا يعدو كونه مناطق نفوذ، وصراعاً على الموارد والنفوذ. تفتح هذه الحالة السبيل أمام حالات متنوعة في شدتها من فقدان المناعة الوطنية، ويصل فقدان المناعة أقصاه حين تبحث العصبيات لها عن حلفاء أو حماة خارجيين في حربها مع سواها في الداخل.
وحين لا يتشكل مفهوم الوطن، فإن كيانه ذاته هو الذي سيهدد، وإذا هدر كيان الوطن من قبل العصبيات الداخلية، فإنه سيسهل على القوى الخارجية السطو عليه وسرقته، سواء بالاحتلال أو بالاستغلال أو بهما معاً. هو الخاصة، حالة من ويزيد من تفاقم فقدان المناعة الوطنية، هدر المؤسسات الذي يحدث حين تطغى العصبيات على الوطن.
المؤسسات تتحول إلى مناطق نفوذ ومغانم، توزع على الأتباع. ولذلك فإن العلاقة بين العصبيات ومؤسسات المجتمع هي صراع النفوذ والمغانم، وليس علاقة تقوية وتعزير لهذه المؤسسات التي تؤطر القوى الحيوية لأي مجتمع، وتشكل مرتكز متانة النسيج الاجتماعي، وحصانته وفاعليته ونمائه.
ذلك لون آخر خطير من ألوان الهدر. كيف يمكن إذاً أن يكون هناك بناء أو نماء في هذه الحالة؟ هو شأن القبلية من تتفاوت حالة العصبية وسطوتها ما بين حالات علنية ظاهرة، كما والعشائرية، والطائفية والعرقية المتطرفتين، وبين حالات أكثر خفاء تعمل تحت غطاء الحداثة التكنولوجية وحداثة أنظمة الإدارة التي تتعرض للاختراق أو الازدواجية؛ ما بين هياكل تنظيمية رسمية حديثة، وهياكل نفوذ تعمل من وراء ستار.
كما أن هناك حالات من التمازج والتداخل ما بين العصبية الفعلية والانفتاح على الحداثة في نوع من ازدواجية الرؤية والتصرف، يتم رفع شعارات الحداثة والمناداة بها وحتى تبنيها وممارستها عملياً، في حين تظل رؤية العالم والذات عصبية، وتفعل فعلها المؤثر في السلوك والممارسة والقرار والمواقف. وهناك على الطرف المقابل للعصبية الصريحة كبنية وممارسة وانتماء، ثقافة العصبية التي تشاهد في الممارسات الحضرية، تسود في المجتمع في هذه الحالة مظاهر وممارسات وتوجهات الحداثة، إلا أن الروح العصبية، والروابط العصبية تظل فاعلة في الخفاء.
وهي تبرز في أوقات الأزمات والصراع على المصالح والنفوذ بين مختلف الفئات لتأخذ الصدارة في معايير السلوك والتفاعلات ومرجعياتهما. وقد يصل الصراع حد المجابهات المسلحة التي تنسف قشرة الحداثة التي طالما ميزت المجتمع وسلوكات ناسه.
ويفتح سجل الاقتتال الأهلي ما بين العصبيات، والذي يمكن أن يصل حد المجازر والتصفيات، أما في الحالات الأقل حدة، فإن العصبيات تفعل فعلها الخفي، وراء قشرة الحداثة، من خلال إرغام المواطن على الجهر بانتمائه إلى عصبية من نوع ما طائفية، أو مناطقية، أو عائلية أو...الخ وإرغامه على الرجوع إلى هذه المرجعية العصبية كشرط لحصوله على حقوقه المدنية، في فرص العمل والوظيفة والتقديمات. ومن خلال الحقوق المشروطة تسترد العصبيات ما أخذته منها المدينة والحداثة من مرجعية ومعايير وموجهات. وتكون النتيجة هدراً للكفاءات، وهدراً لقوة المؤسسات، وهدراً للفاعلية الإنجازية الإنتاجية، وهدراً لمناعة النسيج الاجتماعي والوطني في المحصلة سواها).
وهكذا وفيما وراء مظاهر التحضر والمؤسسية المدنية والحداثة، فإن العصبيات تدافع عن كيانها بدأب وقوة أو بأساليب ووسائل متعددة، تطغى وتتخذ طابعاً رسمياً في الصراعات والأزمات. وتطل برأسها حين يحدث تراخ في عمليات التحضر والتحديث، أو هي تناور وتتنازل راضية بشطر من النفوذ والمغانم حين تشتد قوة المدنية والتحضر، وقد تساير وتتخفى في انتظار الظروف المناسبة.
إلا أنها قادرة على البقاء كثقافة مستعدة للتحرك في المكان والظرف المناسبين. من هنا ما ذهب إليه الأنصاري من القول بتحول لم يحدث، وهكذا تحمل العصبيات بذو هدر الداخل والخارج سواء بسواء، مما يتوجب التوقف عند بعض ألوانه وكيفياته.
اضافةتعليق
التعليقات