صوتٌ يصدحُ في أرجاءِ حارتنا.. يُغرّد كالبلبل الفتّان .. فيا له من صوت تستريح له النفوس، وتطربُ له الآذان!
_ مَن يشتري... مَن يشتري راحة بال؟ اقتربوا.. هلمّوا.. عندي تجدون ضالّتكم ودواء دائِكم وشفاء علّتِكم.. عندي فقط ما يريحكم من هموم الدنيا وغمومها، وما يجعلكم بمنأى عن صروف الدهر وتقلّبات الزمان.. ألا هلمّوا واقتربوا..
خرجتُ من بيتي مسرعة وقلتُ له:
_ ماذا تبيع ياسيدي؟
أجابني:
_ أبيع راحة بال!!
استغربتُ من قوله.. وقلتُ في نفسي: لو صحّ كلامك لاشترتها أمّنا الزهراء قبلنا، ولِمَا عاشت الأحزان والآلام بعد رحيل والدها.
رحماك أي ربي.. أيُّ مصائب دهت مولاتي الزهراء فجعلتها مهيضة الجناح مكسورة الخاطر؟ أيّها أذكر يا إلهي وأيّها أنسى؟
لم تكن الزهراء قبل رحيل والدها مدارا لحزن هنا، أو مسرحا لترح هناك
لقد عاشت الزهراء في ظلال أبيها موفورة الدلال باذخة التقدير، وكيف لا؟ وهي الأثيرة لديه والقريبة إلى فؤاده.. إنها الزهراء ريحانته من الدنيا وروحه التي بين جنبيه، إنْ رآها تزاورت الهموم عن صفحة قلبه وتلاشت، لا تستكين نفسه الشريفة إلا بلقياها والإستيناس لحديثها، فهي أم أبيها و(فداها أبوها) ليس إلا ترجمة حرفية لعميق الحب وشديد القرب.
ولكن بعد ارتحال النبي عن دنياها، وغيابه عن عينيها، انهالت المصائب على قلبها وتناسلت الهموم في ساحتها، وتعاضد الزمان والمكان على هضمها وإيذائها، حتى استحالت إلى كيان محزون مكروب، قد أكل الحزن محاسن بهجتها، واستولى على ما تبقّى من ثمالة رونقها.. وما يُدمي القلب أكثر أنّ ما جرى عليها قد جرى والجرح لمّا يندمل بعد، والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لمّا يجفّ تراب رمسه الشريف المطهّر، فأي نكاية هذه وأي تنكّر لتضحيات النبي الأكرم؟! وأي تشفٍّ انطوت عليه سرائرهم تجاه ابنته الزهراء البتول، فما رعوا ذمّتها وما رحموا دمعتها وما خافوا الله فيها..
لقد ظلموها وأغضبوها ولم يرضوها، واجتمعوا على مصادرة حقها وإرثها من أبيها.. حتى ودّعت الحياة وهي غضبى على أُمّة تكالبت على سلبها نحلتها من أبيها، متجاهلة كلّ نصٍّ ووصيّة، متنكرةً لتعاليم السماء، التي فرضت مودّة أهل بيت النبي على كل مسلم يُدين بنبّوة محمد (صلى الله عليه وآله)..
إنه النبي ذاته يخبر ابنته الزهراء وهو في مرض الموت قائلا لها: يا بُنيّة أنه ليس منا من نساء المسلمين امرأة أعظم رزيّة منك. (١)
فما أعظم رزيّتها؟! وما أكبر مصيبتها؟! وما أشد جرأتهم على الله ورسوله في النيل من سيدة النساء، وجعلها مكلومة الفؤاد قريحة العين منهدّة الركن؟!
فلو كان يحق لأحد شراء راحة البال لكانت هي الأحق بذلك.
لكنني عدتُ لواقعي، بعد استذكاري لمصائب الزهراء، ومجاراة له سألته:
_ وهل راحة البال بضاعة تُباع وتُشترى ياسيدي؟!
فأجابني:
_ نعم ياابنتي.. راحة البال تُباع وتُشترى!!
وفي الأثناء خرجن جاراتي.. تحلّقن حولنا وقد تناهى إلى أسماعهن صوت المنادي.
جارتي أم جاسم أم لثلاثة شباب، قدّمت اثنين منهم شهداء في الحشد الشعبي، وبقي واحدٌ تخشى عليه من كل شيء، حتى من العثرة أن تُدميه، حالة الفقد التي ألمّت بها أشعرتها بالحزن والوجوم والتوتر والقلق، وهي أحوج الجميع الى راحة البال.
أما جارتي الأخرى أم سعيد، فهي أبعد ما تكون عن السعادة وراحة البال، ربما تعجبون من وصفي إيّاها، لكن إذا عُرف السبب بطل العجب كما يقال، فهي أرملة توفي عنها زوجها في حادث سير مؤلم، ولدها الكبير طلّق زوجته إثر خلافات زوجية حادّة، فأتى بأولاده الخمسة إلى بيت والدته كي تحنو عليهم وترعاهم.
ابنتها الكبرى ليس لها حظوظ بالزواج على ما يبدو، بلغت من العمر ثلاثين عاما ولم يتقدم لخطبتها أحد.
أما ابنتها الصغرى فهي طالبة جامعية، تعرضت لحالة كآبة حادة، مما حدا بها إلى ترك مقاعد الدراسة... أم سعيد هي أحوجنا إلى راحة البال بلا أدنى شك.
وفجأة.. بعد ما سرحتُ بأفكاري بعيدا ، توجّه نحوي متسائلا:
_ وأنتِ ياسيدّتي هل تحتاجين وصفتي لراحة البال أم لا؟
أعادني سؤاله إلى ذاتي، فمن أنا؟ وما خطبي؟ وما حاجتي إلى راحة البال؟! فأنا أم لثلاثة أولاد وبنت واحدة.. هاجر اثنان من أولادي إلى اوروبا بعد أن ضاقت عليهم السبل، افتقدوا الأمان في وطنهم، تعرّضوا لخيبة أمل كبيرة، أنهوا دراستهم الجامعية وانتظروا التعيين لكن دون جدوى.
وبعد سنتين التحق ابني الثالث باخوته مهاجرا إلى دار الغربة البعيدة.
وبعد أسبوع من سفره تعرّض أبوهم إلى جلطة دماغية أقعدته طريح الفراش، وها أنا اليوم وابنتي نعتني بالأب الفاقد.. فعن أي راحة بال يتحدّث هذا الوافد الغريب؟!
قبل أن أجيب على تساؤله، انبرت إحدى الجارات قائلة:
_ كلّنا ياعم بحاجة إلى راحة البال، فقل لنا وصفتك السحريّة.. سنكون لك من الشاكرين.
_ عليكن باللامبالاة فهي الدواء الشافي!!
وكلّنا كذلك وبلا فاصلة، فغرت أفواهنا من الدهشة بعد سماعنا لهذه الوصفة السحريّة، وبعد أخذٍ وردٍّ ولغطٍ كبيريْن، انسلَّ من بيننا سريعا وهو يلّوح بيده قائلا:
_ اعذرنني سيدّاتي، بالي مشغول على زوجتي المُقعدة، تزوّج أولادنا وتبعثروا في كل مكان، الجميع مشغول بنفسه، ولم يبقَ لها في الدنيا سواي!.
اضافةتعليق
التعليقات