إن الانسان لا يبادر بسلوك ما أو يُقدم على عمل إلا بوجود قناعة في داخله تجعله يُقدم على أداء العمل، وهذه القناعة تترتب على أثر منظومته الفكرية أي الفكرة التي ظهرت في الذهن، وأصبحت قناعة وبالتالي هي ستتجلى وتظهر بشكل سلوك عملي على أرض الواقع.
لذا فكلما كنا قريبين من فكر كتاب الله حيث من أهم وظائفه هي بلورة وتصفية أذهننا وتصحح فكرنا لنحصل على فكر سليم ينتج عنه سلوك قويم، وبالتالي يتحقق الوعي المطلوب في الانسان.
فكتاب الله يُربينا ويُعطينا كل ما نحتاجه من خلال آياته المشيرة إلى التفكر والتأمل والنظر والتدبر في مجال الوعي الآفاقي والانفسي.
فالطبيعة وكل ما عليها من مخلوقات والكون وحوادث التاريخ، كلها تثقف الانسان وتجعله متيقظ لحقيقة نفسه وغاية وجوده، لذا تراه يَجد ويكون من أهل النشاط والعمل.
فالقرآن يخاطب وجودنا بأكمله ويبدأ بوجداننا فالخشوع لآيات الله يُحدث التغير فينا ويهيئ الأرضية لإظهار ما هو راسخ في فطرتنا من قيم إلهية قد أودعها تعالى فينا لأننا نفحة من روح الله تعالى.
ولكن القلب له الدور الأكبر في تحويل هذه الأفكار إلى وعي وإن حصل وأستجاب لها العقل وتقبلها.
فإذا لم يكن القلب متوجه وصافي ومتفاعل مع كلام الله فلن يتحقق النفع المطلوب ولن يترتب أي أثر نفسي وعملي في وجودنا.
فمتى ما صفى القلب من الكدورات والظلمات سينفذ فيه نور الله المتجلي بآياته المحكمات لنبصر ما حولنا.
فإن أعظم الخصال التي يسعى الانسان المؤمن أن يحققها في حياته هو أن يستقي من نور الله ليضيء مصباح قلبه فينير وجوده الانساني بالوعي فيبصر طريقه ويَجد في سيره ليرسو بأمان ويبلغ الفلاح في نهاية هذه المرحلة من الحياة الدنيا إلى حيث الحياة الأبدية.
لذا متى ما ارتبط الانسان في الله وكان متيقظاً متفكراً أي انه استوعب كل ما حوله بحيث يكون صاحب نظرة إلهية لكل شيء؛ تتفتح عيون قلبه بالبصيرة فلا يخشى على قلبه من الزيغ أو الطبع وغيرها من الأمراض..
فمن المصاديق القرآنية الحاثة على تحقيق الوعي الذاتي من خلال التفكر كما في قوله تعالى:
﴿أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾ (العنكبوت :19).
وكتاب الله يعطينا نموذج عن الانسان الواعي بذاته وهو خليل الله ابراهيم (ع) فقد بين كتاب الله كيف انه كان عارف بأصل مبدأه ثم افتقاره لله وفي حياته الدنيا وإلى أين منتهاه بقوله تعالى:
﴿الذي خلقني فهو يهدين (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ(80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ﴾(الشعراء :81).
وثمرة الوعي الذاتي تكمن في انه يعرفنا بحقيقة ارتباطنا بالله تعالى فنحن محض افتقار إلى عطاء الله وارادته ومشيئته وقدرته في مرحلة ابتداءنا ومرحلة بقائنا واستمرارنا في هذه الحياة وإلى رحمته وغفرانه في انتقالنا للعالم الآخر.
ووجود حالة الوعي برجوعنا لخالقنا، واننا في مرحلة من مراحل وجودنا والتي هي فرصة لتتكامل ذواتنا فيها أكثر؛ لننتقل بعدها إلى مرحلة جديدة نتحلى بها بالدقة واليقظة والتنبه في كل خطواتنا فنحن سندرك أننا في الغد رهن ما نكسب ونفعل الآن.
ومن مصاديق تحقق الوعي الأفاقي الكوني من خلال التفكر بقوله تعالى:
﴿أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ....﴾ الأعراف (185).
فإن استيعاب آيات الله عز وجل الافاقية التي حولنا من خلال احترامها لكونها مخلوقات الله عز وجل، يوصلنا لإدراك أن لكل شيء في هذا الوجود قيمة ودور وفائدة وهو جزء من اللوحة الالهية التي رسمت بريشة اللطيف الخبير، فكل شيء هو نابع عن جماله المطلق، لذا المؤمن الواعي تجده محب لكل ما حوله لأنه صنع الله عز وجل.
وثمرة الوعي الكوني تكمن في أن يكسب الانسان نظرة شاملة ناتجة من استيعابه لكل الحقائق، وللسنن الالهية.
فكل ظاهرة طبيعية هي مرتبطة بسلسلة من العلل وهذه السلسلة تنتهي إلى علة العلل وهو مسبب الأسباب. فكل مخلوق له دور يؤديه وله تأثير علينا، ونحن بدورنا نؤثر عليه. بالتالي فإن طريقة تعاملنا مع هذه النعم ينعكس بشكل كامل على حياتنا.
فالمؤمن لا استغناء له عن الارتباط بالأسباب المادية (عالم الشهادة)، والارتباط بما يكافئها في عالم المعنى (عالم الغيب).
فهو لا ينظر للأمور بنظرة قاصرة أي فقط بجارحة العين التي تقتصر رؤيتها على عالم الحس والمادة، بل نظرته للأمور بعيدة أي ببصيرة القلب المتمثلة برؤية ما وراء الحس وبكل ما يرتبط بعالم الغيب.
ومن المصاديق القرآنية الحاثة على إيجاد الوعي التاريخي هو قوله تعالى:
﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ (يوسف :109).
فعن الامام علي (عليه السلام) في وصيته لابنه الحسين (عليه السلام) انه قال:
"يا بني وإن لم أكن قد عمرت عمر من كان قبلي، فقد نظرت في اعمارهم، وفكرت في اخبارهم وسرت في آثارهم، حتى عدت كأحدهم بل كأني بما انتهى إلي من الامور قد عمرت مع اولهم إلى آخرهم" (١).
فالمؤمن هو لا يقتصر انفتاحه على ما يعيشه ويعايشه، بل عليه أن يأوي إلى كهف التاريخ، فإن لم يفعل فإنه سيتهاوى ويضمحل.
فالمطلوب أن يستوعب تجارب الماضين ليعرف ما عليه فعله في الحاضر، وذلك بربط الحقائق الكبرى المذكورة في كتاب الله بالسلوكيات المباشرة في حياتنا.
مثلاً القرآن الكريم لا يخاطب الطاغية لأنه مقفل القلب لا يستمع وإنما يخاطب المظلوم، لماذا؟ لكي ينهض الانسان بنفسه ويقف بوجه الطغاة ويصحح، لأن الطغاة من صنع المجتمع.
لذا فالفعل يحتاج تفكر ليتحقق الوعي، ففاقد الوعي لا يعطي شيء طيب وسليم، والانسان خُلق ليكون معطاءً، ومنتجاً، ومبدعاً، وخلاق.
فمتى ما قطف الانسان ثمرة وعيه بعد أن اختار بذور فكره الجيدة ورعاها بالتفكر سيدرك أن الله تعالى خلقه عنوانا بارزاً في هذا الكون فلا يرضى لنفسه أن يكون بضع كلمات في هامش هذه الحياة تنقش على قبر يكتب فيها المتوفى فلان!.
اضافةتعليق
التعليقات