العراق الذي أنار العالم طويلاً بخيراته وعلمه وحضارته يقبع اليوم في ظلماتٍ ثلاث؛ انقطاع الكهرباء والجهل والفساد، بلاد الرافدين التي كانت الشعوب تفتخر بالإقامة والدراسة والعمل في عاصمتها تشكو شحّة الكهرباء والانترنت والماء، وشبابها يهاجرون وفي لجج البحار بحياتهم يخاطرون، أزقّة مدنها العريقة تلك التي طالما صدحت حناجر الشعراء مدحاً وشوقاً بجمالها هاهي الآن تضجّ بالشكوى والرثاء والوقوف على الأطلال، وفي الوقت الذي يتزاحم سكان الغرب على المكتبات لاقتناء كتب تحتضن صفحات من ذهب يتزاحم العراقيون على أصحاب المولدّات لزيادة عدد الأمبيرات ولشراء خطٍ ذهبي يعينهم على قيظٍ لايرحم، وبعد أن كانوا من أغنى شعوب العالم أصبحوا ضمن الشعوب الفقيرة، وأبناء دجلة والفرات بات اسمهم أبناء القهر والضيم!.
كل هذا والشعب بقي صامتاً وصوته يُقمع إن علا من طواغيت تناوبوا وتفنّنوا بالظلم والسرقة والخيانة، وجرّب الناس السيء والأسوء، حتى تحرروا من جور السلاطين إلى حدٍ ما، وبعد سنوات ظلم وفساد من نوعٍ آخر أفاق الشعب؛ فاليوم تشهد البلاد مظاهرات كبيرة يطالب مفجرّيها بأبسط حقوقهم ومنها أساسيات العيش الكريم.
قد يتساءل البعض؛ أين كنتم يامعشر القوم؟!
قد يكون الجواب أن بلغ السكين العظم، وأنّ الانسان الذي تتكالب عليه المصائب سيثور على أصغرها وأبسطها وسيتذكر كل الأزمات والنكبات التي طالما سكت عنها..
وايضاً قد حلَّ علينا فصل الصيف البهيّ وضمن آداب وحسن ضيافة الشمس المشرقة لبلادنا تقوم الحكومة بفصل الكهرباء والماء ومعها فصل صبر الناس عن السكوت، فقرعت حينئذٍ طبول التظاهر وانطلقت في الجنوب ووسط البلاد ثورة الجياع والعاطلين والمتضررين من كل وزارات الدولة ومؤسساتها دفعة واحدة! وزاد من غضب الجماهير فصل الانترنت وحجب مواقع التواصل حبيبة الجماهير ومؤنسهم الوحيد والأبرة المخدرّة عن الكثير من مايعانيه المواطن.
بلاشك الكهرباء والماء والانترنت وغيرها عصب الحياة وحق أساسي من واجب الدولة أن توفرّه لشعوبها ولاسيما إن كانت دولة غنية بالنفط كالعراق، ورغم أنّ مطالب المتظاهرين ولاسيما في مدينة البصرة لم تقتصر عليها فهم طالبوا بمحاكمة الفاسدين والاهتمام بالجانب الطبي والتعليمي والخدمي، ولكن أزمة الكهرباء وفي أوج أيام الصيف هي من جعل الشعب يثور ويخرج..
هنا وقفة وكلمة؛ أيا ليت الشعب يثور دائماً على كل ظلم وعلى كل تقصير وعلى كل خلل ونقص وما أكثرها في العراق..
فلو تظاهر كل مواطن وثار على الفساد وأزمات الضمير في الجانب الصحي والطبي كالمستشفيات وفي الجانب التعليمي كالمدارس ومناهجها ومراكز الدولة المختلفة ومافيها من غش ورشاوي وواسطات في المعاملات والتعيينات وغيرها، ولو ثار على بعض القوانين العشائرية وفصولها الظالمة وكذلك على التجّار الجشعين، وخرج يعارض كل ذلك _سلمياً وحضارياً_ ويطالب بالاصلاح ويعتصم عند كل مؤسسة في الدولة والمجتمع، سترضخ الحكومة وستستجيب الجهات المسؤولة حينها وستقوم لو ببعض الاصلاحات وفرض العقوبات. وكما يقول الشاعر:
إذا الشعب يوماً أراد الحياة فلابد أن يستجيب القدر..
ولابد لليل أن ينجلي ولابد للقيد أن ينكسر..
نحن بحاجة الى ثورة على كل خطأ وكل تجاوز، نحناج لثورة ليس فقط ضد الحكومة والمسؤولين مع أنهم سبب رئيسي في فساد الشعب، فقيمة الجيش رأسه لا أفراده كما يقال.. ومع ذلك فهناك طواغيت ومجرمين يعيشون بيننا وقد خرجوا مع المستضعفين في مظاهرات اليوم.. تظاهر أيها المواطن الغيور ضد كل فساد اقتصادي وسياسي واخلاقي واجتماعي، وإن قلت أنَّ يداً واحدة لاتصفق؛ عليك هنا أن تحشد الناس معك، والمتضررين بلاشك كُثر، وأن توظّف كافة الوسائل وتنادي في مختلف المنابر الواقعية والافتراضية، ستحتاج الى ضغط العشائر والاعلام والمرجعيات والناشطين ثمّ الدولة ستأتي بعدهم تباعاً، طالبوا بكل الحقوق الكلية والجزئية، فلا تكونوا ضمن(أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض) وحتماً المصالح ستلعب دوراً كبيراً فعندما تطالب بحق وتتغاضى عن آخر هنا تكمن الأنانية التي هي أساس كل فساد!.
حتى وإن لم يستجب لك أحد، يكفيك أنك لم تسكت عن ظلمك، فعلي بن ابي طالب يقول: "لنا حق فإن أعطيناه، وإلا ركبنا أعجاز الابل، وإن طال السرى".
صلوات الله على أمير الحقوق والحريات، بالطبع نحن إن لم نُعطَ حقوقنا كنّا أذلاّء، وسوف نتأخر ويتقدم غيرنا علينا، وهذا ماحصل فعلاً عندما سكتنا عن حقوقنا..
وعلى الشعب أن يعي أنَّ عملية الاصلاح والتغيير هي مسؤولية جماعية فكما تقول للسياسي: "أعطِ القوس راميها".. كذلك أنت ومحيطك في البيت والعمل والمجتمع قل لهم: "رحم الله امرئٍ عمل عملاً فأتقنه". فالجميع يجب أن يكون له يد في بناء الوطن.. وأن تعمل هذه اليد للعراق وليس لحزب وفئة وانتماء.
وعلى الحكومة أن تعطي بدايةً حبة بانادول للشعب لتسكّن غضبه قليلاً فترفع الحظر وتحسّن جودة الانترنت لتعود ابتسامة الناس التي كنّا نظنها يوماً بلاسبب، ومن بعدها تعطي أدوية طويلة المدى لأمراض استفحلت في المجتمع، فالمواطن يريد حلول جذرية وليس فقط مسكّنات مؤقتة، يريد أن يعيش بكرامة ويعمل بشرف، يأكل من أرضه ويلبس من معامله، يدخل في المستشفى ليخرج معافى وليس في تابوت، يريد أن يشتري قرص دواء بسعرٍ معقول فهو لايريد مثاقيل من زعفران ولاكيلو عسل تختلف في تسعيرته المحّال التجارية عذراً الصيدليات!.
ذاك الذي يجاور شط العرب وأرض النخيل يريد مياهً حسب التعريف العلمي هي: لالون ولاطعم ولارائحة لها، وليس مياه ترفع ضغطه فوق ضغطه الذي رفعه موظّف أضاع أوراقه وأخطأ في كتابة اسمه في جواز سفره!.
هو يحب أن يمشي بسيارته بشارعٍ طبيعي وبانسيابية وليس في مدينة ألعاب! يريد ان يطالب بحقوقه ولاتقمعه قوات الأمن ولاتقتله، يريد أن تكون العشيرة مع القانون لا العكس! يريد أن يشعل التلفاز ويرى مباراة فريقه المفضّل وليس مبارة للدم وكرة نار تدفعها كل جهة الى اخرى!.
وأخيراً يريد كهرباء.. وإن استمرّت في الانقطاع فهو لن يضمن انقطاع عصب في أعلى رأسه وعندها ستكون النتائج لاتحمد عقباها، وهو يريدها لوطنه لاغير، فهو قانع بقدرة مسؤوليه ولايريد وعوداً بتصدير الكهرباء إلى بلدان أخرى كما تظارف أحدهم في يومٍ ما!.
اضافةتعليق
التعليقات