كانت وماتزال اللغة تشير إلى مفهوم الانتماء في المجتمعات المختلفة، فمن يتكلم اللغة العربية هو عربي، ومن يتكلم اللغة الفرنسية على الأغلب هو فرنسي، وكذلك بالنسبة إلى باقي اللغات، ناهيك عن الحالات الخاصة.
وفي جانب الانتماء التعصبي هنالك من ينبذ كل شخص له انتماء آخر وبشكل سطحي يتم التعرف عليهم من خلال اللغة، فالشخص الذي يتكلم اللغة الأفغانية في بلد عربي يمثل شخصا افغانيا (ما عدى الحالات الخاصة الذين يتعلمون أو يجيدون أكثر من لغة).
وهنالك من يكن العنصرية التامة تجاه لغته، لأنها تمثل الإنتماء للأرض أو الدولة -بالنسبة له-، وقد سئل الباحث السيميائي والروائي الإيطالي الشهير أمبيرتو إيكو Umberto Eco عن الدور الذي يمكن أن تلعبه اللغة في النضال ضد العنصرية والكراهية، فقال: «علموا الطفل الفرنسي أن كلمة lapin أرنب) الفرنسية ليست سوى كلمة ضمن آلاف الكلمات المنتمية إلى لغات أخرى تستعمل من أجل الإحالة إلى الشيء نفسه في العالم الخارجي». والإحالة – كما يدرس النصيون – هي العلاقة بين العبارات من جهة وبين الأشياء أو المواقف في العالم الخارجي الذي تشير إليه الكلمة أو العبارة.
وبذلك فإن ما يقصده إيكو Eco هو إفهام الطفل أن كلمة lapin هي كلمة «تحيل، إلى ذلك الحيوان الأليف المعروف، وأن كلمة lapin لیست، مع ذلك، الكلمة الوحيدة التي تحيل إلى الحيوان نفسه، بل إن هناك آلاف الكلمات المنتمية إلى آلاف اللغات مما تحمل نفس معنى الإحالة إلى ذات الحيوان (مثل كلمات «أرنب» بالعربية، rabbit بالإنجليزية، conejo بالأسبانية، إلخ)، وكل ذلك لحمل الطفل على فهم معنى التعددية. ولكن عربياً، هناك أزمة مفاهيمية الآن. لقد تم تشويه الوعي العربي تماماً خلال العقود الأخيرة، حتى صار لا يجيد التعاطي مع المفاهيم المجردة، مما جعله يستعيض عن فهم عمق المفهوم برفض بساطة المصطلح (ربما لأن في الأول قلق الفكر وفي الثاني اطمئنان اليقين)، فانتهى الوضع بنا إلى أن أصبح لدينا مصطلحات يرفضها العقل الجمعي العربي ابتداء، حتى أن باب النقاش بشأنها صار يقفل من قبل أن يبدأ. من هنا، ولضمان السلامة، أصبح من الأسلم الاستعاضة كلمة «علمانية» بكلمة «مدنية»، وعن «الفلسفة» بـ «التفكير النقدي»، واحتالت بعض الدول العربية على الحساسية الدينية فاستبدلت كلمة «قانون» بكلمة «نظام» وكلمة «فائدة» تحولت إلى «مرابحة»، وهكذا دواليك. وفي الحقيقة، فأن تكون لك ترسانة من المصطلحات الفلسفية واللغوية والقانونية هو أمر مفيد جداً، بل إنه قد يسهل لك القيام بتصرفات هي من حيث المبدأ لا أخلاقية (في اللغة العسكرية مثلاً، لا يستخدمون لفظ «قتل» وإنما عن يتحدثون دائماً عن «تصفية» العدو). ولكن ربما كان ذلك مقبولاً ومحتملاً عندما يتعلق الأمر بالموضوعات الدقيقة (كالقانون مثلاً). ولكن عند التعاطي في الفضاء العام (وليس القانوني المتخصص)، فلا بد من وضع حد فكري معين يكون من المقبول والمتوقع أن يلتقي عنده الجميع، وهو ما أسميه «الاحساس الاجتماعي السليم» common sense. فعندما نكون في منطقة الإحساس بالمسلمات، لا منطقة الانضباط الاصطلاحي، فإن ما أعنيه عندما أستخدم أي مصطلح هو - ببساطة - ما تفهمه أنت هذا المصطلح بعمومية فكرته.
إن النقاش الحياتي، الطبيعي، حسن النية، لا يحتاج إلى معاجم لشرح الأفكار الإنسانية. هنا، لا بد من تعلم لغة عالمية يتكلمها الجميع؛ هذه اللغة تسمى المنطق، وأبجديتها هي الأفكار، أما حروف العلة فيها التي تربط بين حروف هذه اللغة وكلماتها فيسمون فلاسفة وأدباء.
وفي النهاية فكرة التعصب سواء في اللغة أو القومية هي غير مقبولة بتاتا فلا فرق بين عربي ولا أعجمي، ولكننا لا ننكر اعتزاز العرب باللغة العربية لأنها تمثل لغة القرآن ولكن ذلك لا يتنافى مع اعتزازنا بلغات أخرى أيضا، إذ إن الكتب السماوية نزلت بلغات مختلفة بحسب لغة الأقوام المتعارف عليها في ذلك الوقت، فممارسة اللغات ليس أمرا سيئا ولكن الاستخفاف بلغة الأم واستخدام اللغات الأجنبية من باب (الكلاس) هو أمر سيء فما نشاهده اليوم في المجتمعات وجود بعض الأشخاص الذين يحاولون ادراج بعض الكلمات الأجنبية في منتصف كلامهم ليبينوا بأنهم مثقفين أو (كلاس) بحسب تعبير الشارع، ولا يستوعبون بأن اللغة ليست إلاّ وسيلة للتخاطب بين الشعوب وليس تعبيرا عن قومية أو مستوى معيشي أو ثقافي معين!.
كتاب نظام التفاهة للمؤلف الان دونو
اضافةتعليق
التعليقات